أتذكر المرة الأولى التي فهمت فيها أن العبودية ليست محرمة في الإسلام، ولا في أي دين تقريبا في الواقع، أتذكر كم كانت اللحظة مفجعة وصادمة ومزلزلة لكل ربطي البسيط الفتي للمفاهيم السامية بالمعتقدات التي كبرت عليها.
لم يكن لدي شك، بأن العبودية محرمة، بل ومدرجة كأبشع جرائم الإنسانية تجاه نفسها؛ لم أكن لأتصور أن لها تشريع وتنظيم يحكمانها؛ لم أكن أتخيل أن بعض الآراء الفقهية تقول بأن حسن تعبد العبد يأتي من خلال الطاعة لسيده. عندما انفتح باب جهنم هذا عليّ، لفحني صقيع حاد، قطع أوصال قلبي وحرك أرضية صلبة طالما كنت أقف عليها شامخة ثابتة.
لحسن حظي أن لي والدان لا يخبئان رأسهما في التراب. أجلسني والدي ليفهمني الخلفية التاريخية لموضوع العبودية، ليشرح لي الوضعية الاقتصادية لجزيرة العرب في ذلك الوقت والتي اعتمدت بشكل كبير على مداخيل بيع وشراء العبيد كما ومداخيل الغارات والحروب.
فهمت أن الحلول المثالية القاطعة التي طالما آمنت بها ليست واقعية، لا يمكن تطبيقها حقيقة على حيواتنا، وأن التدرج في الحل لازم وأن ضحايا الحلول هي خسائر ملزمة لا يمكن تفاديها. فهمت أن المثالية سراب وأن الرمادي هي البقعة التي يعيش معظم البشر حيواتهم عليها، فالمناطق البيضاء والسوداء واضحة المعالم، نقية التوجه غير متحققة في معظم قصصنا واختياراتنا.
ساعتها حلّ عليّ شعور طاغ بالخديعة. كان يجب أن أعرف هذه المعلومة مبكرا، قبل أن تتشكل نفسيتي وأفكاري وقبل أن يواجهني بها كتاب أقرأه أو شخص أناقشه فيلجمني جهلي وغياب المعلومة التام عني. بقيت ساعتها أقرأ وأقارن بين حجم المعلومة المقدمة لنا في المدارس وفي وسائل الإعلام، بتلك الحقيقية المختبئة في كتب التراث والتاريخ وفي كتابات المفكرين المتنورين حولها.
راعني كم هو قليل ما نعرف عن الحقيقة وكم هو هائل ما نصدق من تزييفات وأكاذيب وتحويرات حول هذه الحقيقة، وراعني أكثر أن كل هذا التزييف ما حقق سوى الضرر الصارخ بالنفوس والعقول، فطوحها بتطرف إما جهة التزمت الديني أو جهة النفور التام منه.
لو أن البحث عن الحقيقة كان مسموحا به، لو أن مواجهة الماضي، ومحاكمته، واستخلاص العبر منه، والتغيير على أساس دروسه كان ممكنا، كما هو التوجه الذي اتخذه الغرب منذ بدايات عصر الحداثة، لكانت الحياة مختلفة، ولكانت العقول مختلفة، ولكانت النتائج كذلك مختلفة تماما.
ولأننا لا نبحث ولا ننقح كتب التراث ولا نتصدى للمفاهيم القديمة ولا نعترف بالتغيير الذي يستلزم إعادة القراءة والتفسير والتأويل؛ لأننا نحيا “على ما وجدنا عليه آباءنا” بالتزام صارم، فلا نسمح بالتفكر فيه، بمراجعته أو بتطويره؛ لأننا نخشى بارتعاب مريع فتح باب التاريخ وإعادة قراءة التراث ومواجهة أي أسئلة قد تتأتى كتبعات لهذين الفعلين، فنهدد ونتوعد من يسأل بالوقوع في الكفر، مؤكدين أن عقل الإنسان محدود ولذا هناك أسئلة لا يجب ولا يمكن الخوض فيها.
فحرّمنا الأسئلة ونفينا حق التفكر والتشكك وقهرنا العقل بومضاته العصبية الخارجة عن إرادتنا من أن تتحرك بحرية وأن تومض بتساؤلاتها ورفضها وتشككها، لأننا قهرنا أنفسنا بأنفسنا، بمخاوفنا، باستسلامنا للإكليروس الديني المستفيد من خوفنا والمتحكم في زمام حياتنا من خلاله.
لأننا كل ذلك ولأننا صنعنا كل ذلك، ها نحن وصلنا هنا اليوم، حيث تراثنا مدفون عميقا بعيدا عن الشمس والهواء الصحيين، وحيث عقولنا حبيسة الخوف والعيب والحرام، وحيث حيواتنا معلبة بعلب صنعها مدعي التواصل مع الخالق والمتحدثين باسمه، فلا كلام فوق كلامهم، ولا تساؤلات مسموحة لا ردود عليها لديهم، ولا رفض مقبول لغير المنطقي من كلامهم، ولا تجديد لبائد من أفكارهم، في الفريزر (الثلاجة) الحارق نحن وأفكارنا ومعتقداتنا نعيش.
ما هي الأبحاث التجديدية حول لغة القرآن الكريم؟ ما علاقة السيريانية والآرامية ببعض الكلمات المذكورة في الكتاب الكريم؟ ما هو التاريخ الحقيقي لشبة الجزيرة العربية؟ ما هو تاريخ العرب الحقيقي لما قبل الإسلام؟ ما هي حقيقة الفتوحات الإسلامية؟ ما هو التاريخ الحقيقي للإمبراطورية الإسلامية؟ ما هو سبب سقوطها؟ لماذا يتمنى الناس اليوم عودة نظام الدولة الإسلامية بخلافتها في حين أنها لم تدم أو تنجح؟ ما هي حقيقة حد الردة؟ ما هي حقيقة العلاقات الإسلامية ـ اليهودية ـ المسيحية في بداية العهد الإسلامي؟ ما هو وضع المرأة في الإسلام؟ كيف يمكن فهم الأحكام الشرعية الخاصة بالمرأة في إطارها التاريخي؟ كيف يمكن تطوير هذه الأحكام توافقا مع الزمن وتطوره؟
هذه الأسئلة نقطة في بحر عميق من التساؤلات والأبحاث والتي ستفتح الإجابات عنها أبواب تجديدية رائعة، ستحرر الناس نفسيا وعقليا لمراجعة أفكارهم ومعتقداتهم، ولاستحضار العقيدة الإسلامية إلى القرن الواحد العشرين بتطوير القراءات وتحديث الأفكار وتنقيح كتب التراث، حتى لا نعود نحيا في تناقض بين أفكار ومبادئ القرن الواحد والعشرين وقصص تراث وأحكام عقيدة ومبادئ دينية بعيدة ألف وأربعمئة سنة زمنيا.
الشريعة الإسلامية، كما كثير من الشرائع الدينية، طيعة، قابلة للتجديد والتنقيح وجميل التحديث الذي سيأتي بأفكار هذا الدين الذي يحتوي على الكثير من مبادئ التعايش والتسامح الى القرن الواحد والعشرين. التحديث والتنقيح والتفكر كلها تعني تجريد رجالات الدين من سلطتهم وإسقاط قبضتهم من على رقاب الناس، ولذا الحرب شعواء ضد هذا التحرر الفكري.
الاختيار لنا، إما نبقى تابعين نحيا في ضبابية المنطقة الرمادية أو نأخذ بزمام عقولنا لنعترف بالمشكلة ولنبحث عن حلها في مواجهة صريحة بيضاء أو سوداء مع أنفسنا.