أستخدم أنا المتضادات كثيراً في حياتي، أذكر نفسي بها لأبقي نفسي في مدرسة الدنيا وأتذكر دوماً، ألاحظ المتضادات حيث تكونت وتجاورت، فإذا وقعت عيناي على مبنى ضخم فخيم، فسرعان ما تتحولان عنه لأقرب مبنى متواضع مسكين بجانبه، وإذا ما بهرتني مائدة عامرة، فسرعان ما تحضرني صور بقايا إنسان صومالي يمكن للمائدة تلك أن تحييه وقريته لأسابيع عدة، فأعقد المقارنات وأذكر نفسي بما يجب ألا تنساه.
قبل أيام كنت في مول 360 الجميل، وفي أحد حماماته، وبينما نتضاحك أنا وصديقتي على فلتان إرادتنا أمام نافذات المحال الساحقة الإغراء، تقدمت سيدة بحقيبة وفستان، أعتقدهما يعادلان سعر سيارتي، تعزر السمراء النحيلة الموكولة بتنظيف الحمام “هذا حمام قذر، نظفيه” بتكرار حاد جعل السمراء النحيلة تنكمش على نفسها وجعل لساني الطليق ينكمش في حلقه؛ موقف استغرق لحظات قصيرة جمدتني تماماً، وما كدت أفتح فمي حتى اختفت السيدة الفاخرة من أمامي.
سكتّ وليتني ما سكتّ، أتمعن في هذا القدر الغريب الذي وضع ممسحة في يد السمراء النحيلة وحقيبة “ألفية” في يد البيضاء الممتلئة، لعبة قدر تحركنا كما قطع الشطرنج، وبينما نحن نعي تلك الحقيقة، لا تأخذنا الرحمة بغيرنا ولا تأخذنا المخاوف لسرعة تبدل الأقدار.
حفرت قلبي حدة تضاد قدري السيدتين، كلتاهما تملك أحلاماً وآمالاً ورغبات، كلتاهما تشتهي فستاناً وحقيبة، كلتاهما تسعى إلى وضع طعام لأسرتها على مائدة طيبة في بيت دافئ، ولكن، شتان بين قدرتيهما على تحقيق الأحلام، فمن السبب؟ أنا؟ أنت؟ أم البشرية جمعاء وهي تصنع فروقاً فاحشة بين البشر وتضع وحوشاً على كراسي صنع القرار؟
وحتى لا يقال إنني مثالية أو ممثلة في الحديث، فلا بأس من ربط المصائر لتتضح الرؤية، فليست تلك المقارنة ببعيدة عنا، على الأقل نحن، البرجوازيين، الطبقة المعلقة، لا هي فوق ولا هي تحت، نحن، من نأخذ معاشاتنا من الحكومة لنعطيها للتجار كل أول شهر. مع بداية كل سنة، تبدأ حملة ضرب الأخماس بالأسداس، نضع أنا ورب أسرتي ميزانية خرقاء بعد أخرى أخرق منها، مصاريف مدارس الأولاد، سيارة يهرأ محركها من حرارة الشمس، وأخرى بمكيف يتعنت مشاركاً في جوقة الخراب المادي، وغسالة تتوقف هنا وثلاجة تزمجر هناك فندبك دبكة الإفلاس.
تتراكم المصاعب فنضاحكها ونلتف حولها، نصبرها مرة، نداورها ونحاورها مرات، ثم إذا أبت إلا أن تضعنا في الزاوية نقترض لها لنسد حلقومها الكبير، وبينما نحن ننظف كل مصاعبنا هذه، يأتون هم على صهوات دبلوماسيتهم، محملين بخمسة وعشرين مليون دينار، خمسة وعشرين مليون خنجر، يطعنوننا ومن هم مثلنا بها، وكأننا وبأيادينا الممسحة ندورها ليل نهار، فيأتون هم بملايين، هي من حقنا وأولادنا وأهالينا وأبناء جيراننا وأهل الكويت كلها، فيعنفوننا بتعال حماماً قذرا، آمرين إيانا بحني الظهور ودس الأيادي في المراحيض، ليتبختروا هم بملايينهم خارج القانون.
خمسة وعشرون مليونا تطل بوجهها القبيح كل يوم من على صفحات الجرائد، خمسة وعشرون مليون صفعة على وجوهنا، خمسة وعشرون مليون ركلة في أجنابنا، خمسة وعشرون مليون بصقة على جباهنا.
فمن يعتقد أنني أبالغ فليضع المتضادات بجانب بعضها بعضا، سيرى أن سيدة الحقيبة الثرية كانت أرحم بالفتاة السمراء خمسة وعشرين مليون مرة من نواب أعطيناهم أصواتنا… ببساطة … ليبصقوا علينا.