حوارات مسلسل «ساق البامبو» بكلماتها العنصرية المعجونة بالكراهية واحتقار الآخر مرعبة لأنها غير غريبة مطلقاً عن واقع حواراتنا، ولولا الداء المزمن لصراخ الممثلين الكويتيين وللضعف المريب في صياغة الحوارات المسلسلية، لكان للمسلسل شأن آخر.
ليس الموضوع موضوع حقوق إنسانية، الموضوع متعلق بأخلاق شعب، أخلاق التعايش التي تساعده على الاستمرار في الحياة، فعندما ينغلق شعب وتسوده روائح الكراهية والنفور تجاه الغير، تصبح حياته كالماء الآسن، متوقفة، عاجزة عن التدفق الطبيعي والاندماج مع حيوات الآخرين المختلطة المتلاطمة في محيط الدنيا. يملؤني الموضوع بالخوف وأنا أراه يملأ كل فراغات حياتنا، فما بين عملنا وزياراتنا ودراستنا ونزهاتنا وسفرنا، تتعبأ الحياة الكويتية بشكاوى كراهية مستمرة، بمشاعر نفور من “الآخر” الذي طالما كان جزءاً طبيعياً وملحاً من هذه الحياة.
وأتى مسلسل “ساق البامبو” بقوة أداء بطلته الفنانة القديرة سعاد عبدالله وبعمق الرواية المبني هو عليها ليضغط على أعصاب رعبي من ذاك المظلم العميق المزروع في نفوسنا، نبتة سوداء زرعت بذرتها الحكومة وسقتها بسوء إدارتها وبالفساد المستشري في جنباتها، لنحصدها نحن بكل سذاجة دون أن نسأل عن سبب أو هدف. مرعبة حوارات المسلسل بكلماتها العنصرية المعجونة بالكراهية واحتقار الآخر، وهي مرعبة لأنها غير غريبة مطلقاً عن واقع حواراتنا، ولولا الداء المزمن لصراخ الممثلين الكويتيين وللضعف المريب في صياغة الحوارات المسلسلية، وكأن كاتب السيناريو والحوار بدأ بجملة ثم قام عنها، وعندما عاد كان قد نسي فحواها فأكملها بما لا علاقة له بها منطقياً أو لغوياً، أقول لولا ذلك لكان للمسلسل شأن آخر. عموماً، يقدم العمل رسالة عميقة ويواجه الناس بقبح بعض الكلمات والأفكار المتداولة، عل وعسى أن يرى البعض انعكاس أفكاره وتعابيره وكلماته في المسلسل فيستفيق قبل فوات الأوان.
وكان أن حضرت زيارة عائلية كبيرة الليلة السابقة لكتابة هذا المقال، فدار حوار حول الكويتيين و”الأجانب”، حين صرخت إحداهن، وهي المعروفة بطيبة قلبها وجمال خلقها في الواقع: أذونا في كل مكان، حاشرين روحهم معنا، دخلوا في أنوفنا، نبي لنا مستشفى بروحنا، ويا ريت يفصلون المطار بعد، وكل شي بالديرة. نظرت إليها وأنا لا أدري أأضحك أم أبكي، فالسيدة زوجها غير كويتي من جنسية عربية، وكذا هي ابنتها منه، ووالدتها في الواقع من دولة شرق آسيوية، فهل استشرى الداء حد أن يتعنصر الإنسان ضد أقرب الناس إليه؟ قلت لها: تذهبين لمستشفى وابنتك لغيره؟ تقبلين منع علاج ابنتك في مستشفاك؟ قالت نعم، أوديها خاص، فنظرت إليها وأنا لا أعرف من أين أبدأ ولا كيف أنتهي، فاتتها نقطتي تماماً، وفاتتني أنا ضربة من ضربات قلبي، وفاتت الكويت كلها محطة “المركز الإنساني” التي تسمينا باسمها إلا أننا تجاهلنا النزول فيها.
تكالبت عليّ الآراء وأنا جالسة بين أهلي وصديقاتي، صرخت السيدات، اللواتي سيعدن إلى بيوت يخدم فيها أجانب في سيارات يسوقها أجانب، وسيذهبن إلى سوق يبيع فيه أجانب، وسيوصلن أبناءهن إلى مدارس يدرس فيها أجانب، وسيزرن محطات بنزين يقف فيها أجانب، وسيتبضعن في جمعية يخدم فيها أجانب، صرخن بكل أصواتهن الرفيعة والسميكة بجمل ركيكة التركيب والمعنى، وكأنها قادمة من سيناريو مسلسل كويتي هزيل، جمله عالية الوتيرة عنصرية الفحوى كريهة الكلمات، عن الأجانب اللي أكلونا، وعن الكرم الكويتي، و”أنا والله ما في أطيب مني مع شغالتي أعطيها من هدومي وأطلعها معاي وحتى موبايل أخليها أحياناً تستخدمه” و”ما في بلد مثل الكويت يعالج الأجانب ويدرس عيالهم” و”الله لا يغير علينا، أهل كرم” وغيرها من الجمل المستهلكة الركيكة، يمتدح فيها أصحابها أنفسهم ولا يرون هزالة وكوميدية ونرجسية هذا المديح المريض. عدت للبيت بقلب مثقل، فاضت عليّ مخاوفي، ماذا لو استمر هذا التفكير وتضخم حتى سدّ كل ضوء شمس يطهر حياتنا؟ ماذا لو عزلنا هذا التفكير تماماً فقضى على كل قدراتنا على التعايش مع الآخر؟ ماذا لو انقلبت الدنيا ودارت الأيام وأصبحنا نحن ذوي حاجة، نلجأ للآخرين ونترجى حسن استضافتهم وكرم أخلاقهم وعدل معاملتهم؟ كل شيء جائز والدنيا دوارة، فماذا لو دارت علينا؟ لن يحفظنا الله إلا إذا حافظنا على إنسانيتنا، رعاكم الله وأبعدكم عن كل مكروه.