يا إلهي، الكل في هذا البلد “يضرب” والكل معرض للضرب، استبدلنا اللسان بالذراع، والنقاش بالهراوات، إذا كان النواب يضربون والحكومة تضرب فمن لنا يسند القانون، وليس فقط القانون، ولكن الإنسانية المتحضرة الرحيمة؟ الخيط رفيع بين الأشخاص والأفعال، بين مساندة إنسان بذاته ومساندة المبدأ الذي ينطبق عليه، لذا نرى الكثير من الناس، على إثر التخبطات النيابية والأداء المتمصلح والعداء السافر للحريات، قد غامت الرؤية أمامهم، واختفت الشعرة، والتصق المبدأ بالشخص، فأصبح الانتصار لمبدأ ما وكأنه انتصار للشخص الذي ينطبق عليه المبدأ، والفرق ها هنا شاسع، والحاجة لتبيان الفرق تلح إلحاح الاختيار بين الحياة والموت.
لا يمكن أن يكون “حديث الذراع” إنسانياً مناسباً في يوم، فالعنف بكل صوره يمثل مرحلة بدائية من حياة الإنسان، والإنسان المتحضر هو ذاك الذي بات يستطيع أن يتحكم بانفعالاته وتطرف مشاعره، فدفن العنف في أعماقه كما دفن الغريزة الجسدية الهوجاء، فلا هو يسحب أنثاه للكهف من شعرها ليعاشرها بوحشية ولا هو يهبط بهراوته على من يستثير غضبه أو يخالفه في هواه.
إن الحديث “التكنيكي” عما حدث في ديوان الدكتور الحربش يمكن أن تتعدد الآراء حوله، إلا أنه مما لا شك فيه أن المحكمة الدستورية قد حكمت بعدم دستورية أحكام الباب الأول من قانون التجمعات الخاص بالاجتماعات العامة، والذي ولسخرية الأقدار كان قد أطلق الحكم التاريخي بعدم دستوريته وزير العدل الحالي المستشار راشد الحماد، لذا، فالاجتماع في ديوان الدكتور الحربش لم يخالف قانوناً ولم يتضادّ وروح الدستور، ولكنه أتى مخالفاً “لرغبة” أميرية أعلنها سمو الأمير كنصيحة غير مقننة ودون أن تحمل صفة رسمية، فلم يصدر عن الديوان الأميري أي تصريح رسمي بهذا المحتوى، ولكن سموه تحدث للشعب حديثا وديا “نصائحيا”. وبالرغم من أن الحصافة لم تكن مع عقد ندوة مشحونة تالية للندوة التي ضرب فيها السيد محمد الجويهل، ليأتي الناس محملين بالضغائن والغضبات غير المروضة التي دفعت إلى السطح بهوج البعض منهم راكبين مركب العناد ومجدفين فيه بقوة، إلا أن ما تم لم يكن مخالفة مباشرة لقانون أو أمر أميري، ولم يكن يستحق إرسال القوات الخاصة، ثم لم يكن يستدعي العنف الذي تعاملت به تلك القوات مع أفراد الشعب، وهو عنف لابد أنه أثار استياء سمو أمير البلاد أكثر من استياء سموه من مخالفة نصيحته بعيدة النظر. ثم، وإذا كان الوضع على قدر من الخطورة يستدعي نوعا من التدخل، ألم يكن من الأجدى اعتقال كل من كان واقفاً خارج المنزل عوضاً عن ضربهم ضرباً مبرحاً مثيراً للأسى؟ لقد تصرف بعض الحضور في الندوة تصرفات غوغائية، وتلك متوقعة في أي تجمع بشري وفي أي مكان في الدنيا، ولكن الحكمة والصبر وبعد النظر مطلوبة من قوات الأمن ومن الطرف الحكومي وليس من العامة “المخلوطة” بين العاقل والجاهل والهادئ والغوغائي.
لقد كان النقد للجماعات الإسلامية دوماً منصباً على اتخاذهم مبدأ التخويف لدفع الناس باتجاه أهوائهم، واليوم الحكومة تتخذ ذات المبدأ والذي عاد خطوة للوراء، فلم يعد ترويعاً نفسياً فقط ولكن ترويعاً جسدياً كذلك. الوضع في غاية الخطورة ليس تحديداً بسبب تفشي ظاهرة الضرب بيننا، ولكن السبب الأهم هو تفشي القبول لهذه الظاهرة على أنها “الحل” مصحوباً بتغييم أعيننا ليختلط الأشخاص بالمبادئ، فأصبح استنكار العنف اليوم انتصاراً لوليد الطبطبائي، والتمسك بمبدأ الحصانة تمسكاً بوليد المسلم. الخيط الرفيع قد يصعب تمييزه، ولكن حياتنا وأمننا وديمقراطياتنا تتعلق عليه، فلنركز جميعاً عدساتنا المكبرة باتجاه الخيط، ولنضعه نصب أعيننا باستمرار، ولنقاوم، عندما نحدد مواقفنا من الأحداث الراهنة، ونزعاتنا البدائية في التشفي والانتقام وتغليب المصالح، ولننظر للصورة الأكبر وللبعد الأعمق، وإلا ستدور الدوائر وتصلنا الهراوات بدفع من تهليلنا الحاضر للمنطق البدائي العنيف. هناك ألف حل قبل “حل” العنف، وعندما نصل إلى نهاية “صف” الحلول، نخترع حلاً، أي حل عدا العنف، ولا ننسى أن الشرطة والقوات الخاصة والشعب المضروب إخوة وأبناء بلد وشعب واحد، إنه إسفين حاد ناري بيننا، ولا يمكن لهذا النصل سوى أن يشق الصدور ويسيل الدماء… فلا تفعلوا.
«آخر شي»: «ألطف» القول في مؤتمر وزارة الداخلية الصحفي كان الإشارة إلى مساهمة الرصيف والحشائش في إيقاع إصابات، والألطف منه قولهم بانتفاء الاعتداء على الموجودين وبأن النواب خرجوا سالمين… المؤتمر تم على عجالة، وكان يمكن “تكتيكه” بأفضل من ذلك.