الأوقات الصعبة تظهر أفضل ما فينا وأسوء ما فينا. كنت أفكر في ردات الفعل المختلفة للتهديد الكوروني للبشرية بأكملها، وكيف تتباين الانفعالات وطرائق التفكير وفلسفة الموقف الوجودي بحسب طبيعة الشعوب وثقافتها والمعادلة التي يحملونها عميقا في نفوسهم بين الرغبة في البقاء وحفظ النوع وبين ضغوط عنصرياتهم وتحيزاتهم وأفكارهم على كل الظروف من حولهم، حتى تلك التي تهدد نوعهم ووجودهم، بما يدل على رهافة جنسهم المتأرجح على حافة الفناء طوال الوقت، أقول كنت أفكر في غرابة التنوع وكوميدية التشابه بين أفكارنا وردود أفعالنا كبشر حين قطع عليّ خبر ليس ذي علاقة حبل هذه الأفكار.
كان الخبر الظاهر على شاشة التلفون يدور حول مباراة في الدوري الألماني، رياضة لا أفهمها بتاتا ولا تبدو لي، منطقيا، ذات خطوات متسقة أو فلسفة مفهومة. كل ما أعرفه عن كرة القدم، بعيدا عن تقنية اللعب، هو أنها رياضة وطنية جدا، تثير المشاعر القومية ولها قوة توحيد أي شعب تقريبا مهما فرقته مداخل الحياة الأخرى.
اختبرت مباراة حية مرة واحدة في حياتي منذ سنوات عدة، حين وافقت زوجي، مقايضة على حضوره لحفل أوبرا معي، على حضور مباراة دوري بين برشلونة وفريق آخر تمت على أرض برشلونة، حيث كنت بلا شك الرابحة في هذه المقايضة.
أعترف أنني اختبرت مشاعر غريبة تماما، شعرت فجأة بقومية إسبانية تتخلل نفسي العربية الكويتية بامتياز. حماس فار في أنحاء جسدي وروحي وأنا أشارك الصارخين صراخهم الذي لا أفهم أسبابه وأساهم معهم في صنع الموجة “الجمهورية” وقوفا وجلوسا وكأن فوز برشلونة في تلك اللحظة هو أهم إنجاز في حياتي.
كانت التجربة مهيبة وكان الدرس المعرفي الذي تلقيته هو أن لرياضة كرة القدم تأثير “فخم” كحدث اجتماعي وسياسي على كل الأطراف المعنية.
المهم أن جزئية خبر الدوري الألماني حول مباراة بايرن ميونخ وهوفينهايم التي تعنيني تقول إن المباراة توقفت مرتين بسبب تصرفات جماهير بايرن ميونخ الذين رفعوا لافتات مسيئة لمستثمر يدعم نادي هوفينهايم ماديا، حيث بعد التوقف الثاني، عاد اللاعبون إلى أرض الملعب إلا أنهم “مرروا الكرة إلى بعضهم البعض طوال 13 دقيقة إبداء لاعتراضهم على تصرف الجماهير، حتى أطلق الحكم صافرة النهاية معلنا فوز بايرن 6 مقابل صفر”.
تشير بعض مصادر الأخبار الى أن اللافتات كانت تحمل كلمات نابية ترقى إلى العنصرية، مما دعا اللاعبون للاحتجاج بهذه الصورة المؤثرة جدا والتي تحمل نفسا عقابيا للجمهور الذي ترك العنان، في لحظات تحفزه، لظهور أسوء ما فيه.
دوما ما يطفو على سطح الحياة أسوء ما في النفس هذا، وكأنه عفن كامن لا تزيده الكوارث إلا اخضرارا، كلما مر البشر بتجربة وجودية صعبة. حالة جمعية غريبة من العنف المخجل و”العبط” الحزين تنتجهما تصرفات البشر إبان الكوارث ليمسكا بتلابيب المنطق ويحيلونه مهزوما مقهورا.
خذوا عندكم، منذ أن بدأ فيروس كورونا يأخذ شكل تهديدي وجودي كامل (سواء كان التهديد مبالغ به أو حقيقي) بدأت الشعوب المختلفة تظهر أكثر التوجهات إلحاحا لديها. منطقة الخليج ضجت بالطائفية خصوصا بعد قدوم إصابات عدة من إيران، مما حدا بالبعض، منهم برلمانيين وسياسيين مهمين، بالقول بأن هذا مخطط صفوي واضح لتسريب الوباء للمنطقة السنية. تَصَاحب انتشار هذه النظرية التآمرية مع تفشي حالة من الشماتة تجاه الشيعة الذين فشلت كل عتباتهم المقدسة التي يزورونها باستمرار في حمايتهم.
في المقابل، ظهر لبعض رجالات الدين الشيعة تسجيلات يشيرون فيها إلى العقوبة الإلهية التي أخذت تحيق بمخالفيهم، هي “حوبة” آل البيت تصيب كل من خالف التفكير “المعصومي” بحسب تفسيراتهم. كذلك، فإن العديد من أهل الخليج القادمين من إيران يقعون تحت طائلة إجراءات احترازية مفهومة، مفهومة إلا للعقل الطائفي المظلومي الذي يرى في هذه الإجراءات تعسفا طائفيا ونوع من المضايقة المذهبية.
تقف أمام جلال الحمق هذا من الطرفين لتقول، هذا العفن المختبئ أسفل ما يبدو عشب نضر، ما باله يظهر كلما أمطرت علينا بعض الشيء؟ متى نتطهر منه ليختفي من حيواتنا للأبد؟
يا لغرابة شرود العقل البشري، الآن فقط حضرتني المعادلة بأكملها، قدرت الأهمية العظيمة للموقف السامي للاعبي بايرن ميونخ وهوفينهايم وهم يضحون، غالبين ومغلوبين، بالفرصة المهمة، ليلقنوا الجمهور العنصري درسا لا ينسى وذلك حين استحضرت مشاعر التواجد الشخصي في الملعب، الإحساس بشخصنة كل تحرك من تحركات اللاعبين، وكأن كل مناورة منهم هي إضافة أو إهانة شخصية لك.
استعدت طعم هذا الحماس، نكهة الشعور بالتوحد مع الكل، لتصبح كل حركة في الملعب رسالة مباشرة وشخصية لكل فرد من الحضور. يفهم لاعبو الدوري الألماني هذا التأثير السحري لهم وللعبتهم، فقرروا ألا يستثمروه لصالحهم، ولكن لصالح المبدأ وليلقنوا الجمهور درسا لا ينسى.
هذا القرار الذي لربما أتى تلقائيا على ساحة الملعب يعكس عقلية وفهم وفلسفة، كما وتعكس قراراتنا على ساحة الحياة عقلياتنا وفهمنا وفلسفاتنا. منذ أن ظهر فيروس كورونا، تعرت مجتمعاتنا وسقطت أوراق توتها.
في مصر سياسة التعتيم والإنكار، في أميركا سياسة التعالي، في إيران سياسة على البركة، في العراق سياسة على سياسة إيران، في الصين سياسة الكتمان إلى أن يموت الناس وننفضح تلقائيا.
لقد بين هذا الفيروس التباين الواضح في أفكارنا بل وفي تقييمنا للعقلية البشرية. في الغرب، خصوصا الأوروبي منه، هناك وثوق بعقلانية الناس والتزامهم، في الشرق الأقصى هناك لامبالاة مدعاتها ضخامة الأعداد وقلة الحيلة وارتباك السياسات، في الشرق الأوسط هناك نظريات والمزيد من النظريات: كله من إيران، هذه مؤامرة صهيونية، أميركا تتآمر على الصين، الصين تتآمر على أميركا، العالم كله يتآمر على المسلمين، عقاب إلهي، خطة صفوية فارسية، سمي النظرية، أحدنا لا بد وأن سمعها في هذا الجزء الغريب من كرتنا الأرضية.
سياساتنا وطرائق تعاملنا مع هذا الاختبار الطبيعي القدري لوجودنا البشري هي انعكاس لصناعاتنا النفسية، لثقافاتنا وأفكارنا وفلسفاتنا، وبالتالي لقدرتنا على الاستمرار في الحياة. هذه اللحظات تظهر أسوء ما فينا وأفضل ما فينا، ما يميزنا في الشرق الأوسط هو أن أسوء ما فينا يبدو في غرابته وسرياليته كوميديا…حد الموت.