كل إنسان يدعو إلى الدولة الدينية، مع الاعتراض على التعبير بحد ذاته واستخدامه تجاوزاً، هو إنسان طائفي بحت. أولاً، لا وجود فعلياً للدولة الدينية، فالبشر لا الدول هم الذين يتدينون، لذا عندما نقول دولة دينية، فنحن في الواقع نصف إيديولوجية الحاكم أو المشرع ولا نصف الشعب بحد ذاته، كما أننا بكل تأكيد لا نصف الشوارع والمباني التي تشكل الدولة بصورتها الملموسة، وهنا أنا أستخدم التعبير مجازاً لأشير إلى المشرع لا إلى الدولة.
لذا، فإن كل من يدعو إلى “الدولة” الدينية، هو إنسان طائفي، دون تجميل، فهو يرمي إلى تطبيق شريعة روحانية مفردة، على أرض لابد أنها تضم تنويعاً فكرياً وعقائدياً. فالنواب الداعون عندنا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية انقلاباً على ديمقراطية الكويت ودستوريتها سيشرعون طبقاً لتوجه فكري ديني أوحد، في الغالب السلفي، الذي لن يعزل الأديان والمذاهب الأخرى فقط، ولكنه سيعزل حتى أهل السنّة والجماعة الذين هم أغلبية سنية غير سلفية (رغم الإصرار السلفي على أنهم ذات الجماعة) في الكويت. لن يأتي التشريع السلفي مثلاً ليراعي حق مسيحيي الكويت في بناء كنائسهم، وها هي البشائر هلّت مع النائب أسامة المناور، وهو في أفضل حالاته سيعاملهم على أنهم “أهل ذمة” هابطاً بهم من درجة مواطنين إلى درجة “ضيوف” يدفعون المال (الجزية) لقاء بقائهم في أرضهم، هذا فضلاً عن مراعاة التشريعات الشيعية التي هي بالنسبة لهم، وأنا هنا أستخدم تعبيراً مخففاً، “خروج” فاضح.
كما أن كل قيادات الدولة الدينية هي قيادات متطرفة، فالوسطيون المعتدلون لا يمكن في يوم أن يتولوا قيادة دولة دينية أو التشريع لها. فمن يحترم عقائد الآخرين ويقدر اختلافهم ويرحب بتنوع توجهاتهم لا يمكنه أن يشرع طبقاً لشريعة مفردة أو مذهب أوحد، فهو بذلك يهمش الآخرين ويغربهم في ديارهم ويفرض عليهم قوانين يصبغها بالصبغة الإلهية التي لا يستطيع أن يراها هؤلاء الآخرون.
والدولة الدينية هي ليست دولة بالمعنى الحديث للكلمة، بل هي أقرب إلى التجمع العشائري تسيّره أقلية مخيفة تحكم بسيف الحق المطلق والمعرفة الغيبية، عشيرة لا شعب ومواطنون، يستمعون للكبير وينفذون، دون تداول أو مشاركة في صنع القرار. وهي دولة لا يحمي سكانها قانون ثابت، فالتعامل فيها يعتمد على توجه ولي الأمر وعلى رؤيته الآنية، وهو رجل لا يمكن مساءلته ولا محاسبته، ففي الدولة الدينية هو يتحدث بلسان الخالق، فمن ذا الذي يسائل الخالق؟ وها نحن نرى انعكاس هذه الظاهرة السيكولوجية الرهيبة على الكويتيين، فلدينا أغلبية جيدة، رغم محافظتها، غير متطرفة، فإنهم يرضخون، أحياناً بيسر، لنطق رجل الدين “السامي” ولفتاوى تخرج عن إطار كل عقل ومنطق وإنسانية، بعد أن انزرع في الوجدان قداسة مهيبة لهذا الرجل تعزز بخطابات التخويف والتهويل من العذاب الأبدي.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الدولة الدينية تخلو من القيادات النسائية، فهؤلاء تنظر إليهن الأديان، التي تغلفت بالأبوية الرجولية البحتة عبر سنوات من القراءة والفهم والتشريع لمصلحة الرجل، كاختبار وضعه الخالق للجنس الأساسي الذكوري. لذا، فالنساء مصدر خطر وخطيئة، ويجب مراعاة تجنبهن وتخفيف الاختلاط بهن وخلطهن بالمجتمع ما أمكن.
والدولة الدينية لا تعنى بالعهود والمواثيق الدولية، فتلك تحتاج إلى أقصى درجات المرونة والانفتاح حتى تتمكن الدولة من مراعاة بنودها، والدولة الدينية بطبيعتها طبقية هرمية، يركن في قمتها رجل قائد أوحد، ويهبط إلى قاعها مستضعفون أقلية يخفون أديانهم أو توجهاتهم وكأنهم أوبئة قاتلة. وهي دولة يغتني فيها رجال الدين ويزيد فيها فقر الفقراء، هي دولة يصبح فيها رجل الدين مؤسسة مالية سياسية بمفرده وتصبح فيها الدولة تابعة منوطة برضا الرجل وإحسانه.
هذا ما يخبئه لنا الدهر إن رضخنا للتخويف وعكسناه في صناديق الانتخاب، إن استسلمنا للوعود الدنيوية والأخروية التي لا يملك الواعدون تقديمها، مآلنا دولة ليس لها قانون، لا تخضع للأعراف والمواثيق الإنسانية، دولة رجل واحد وفكر واحد، كلنا فيها تابعون لا مواطنون، والأمثلة على هذه الدول المكلومة أكثر وأكبر وأخطر من أن تعد وتحصى. كلنا نريد مجتمعاً أخلاقياً متزناً يخلو ما أمكن من الرذيلة، وهذا لا يتحقق بقوانين ولكن بتوجه مجتمعي عام، فضغط أفراد المجتمع ونشاطهم المدني يفوق تأثيراً ألف قانون لا يمكنه أن يزرع في الوجدان إيماناً أو أخلاقاً. الدين حرية والإيمان حرية، ودون الحرية لا فضل لمتدين أو مؤمن، فهو مسيّر وليس مخيّراً. والإنسان كائن ذو إرادة، دونها يصبح نبتة مسكينة تتسلق الحائط، تربطها خيوط غير مرئية توجه تسلقها، عندها ماذا يتبقى من إنسانيتنا؟