أقرأ هذه الفترة سلسلة قديمة من الكتيبات الصغيرة للباحث سيد القمني، التي يتعرض من خلالها إلى مواضيع غاية في الحساسية والخطورة حول بعض قضايا الدين الإسلامي، والتي يتناولها هو بدرجة كبيرة من الجرأة والوضوح والغضب كذلك.
يتحدث القمني في الجزء الأول المعنون «وللإرهاب أقنعة»، في عارض رده على تعليقات جاءت على إحدى ندواته، عن قيم يصر البعض على وجودها في الشريعة الإسلامية فيما هي في الواقع غير مقرة فيها، مثل قيمة المساواة التامة التي يردّ القمني غيابها إلى أن «الشريعة الإسلامية إنما تعرف الإنسان رتباً ومنازل وطبقات، لكل منها حقوق وواجبات تختلف عن بعضها البعض، فهي طبقات متمايزة مشرعة بحكم قانون الشريعة، وأنه كما تقول الآيات: الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى. بل إن دية الحر غير دية العبد، غير دية الأنثى» (42)، حيث يستمر القمني في إعطاء مزيد من الأمثلة حول هذا التمايز مثلاً من خلال تقدير الخليفة عمر بن الخطاب «من الفيء والغنائم والسبي عند توزيعه على العرب»، أو من خلال تقسيم الإمبراطورية الإسلامية قسمة طبقية بين حكام وعرب مسلمين، وعبيد مسلمين، ومسلمين من بلاد مفتوحة، وأهل الذمة، حيث «لا تستوي مثل هذه الطبقات لا في الحقوق ولا في الواجبات» (42).
يقول القمني إن المقصود من كلامه هذا هو وجوب «احترام شريعتنا بإبعادها عن السياسة، لأنها كانت في معظمها تخص زمناً كانت له ظروفه وطرائقه في العيش والتفكير، تختلف بالكلية عن لحظة زماننا واجتماعنا في مقر يناقش مسألة الدولة وحقوق الإنسان في جاردن سيتي في القرن الحادي والعشرين، وليس في فيافي الصحراء في القرن السابع، ولأن مفاهيم مثل المساواة المطلقة والحريات الفردانية والديمقراطية الليبرالية والانتخابات الرئاسية والتشريعية كلها بنت زماننا اليوم، ولم يسبق أن عرفها الإنسان ولا تحدث عنها دين من الأديان لأنها لم تكن في مخزون زمانهم الثقافي» (42-43). بكل تأكيد، ينطبق كلام القمني هذا على كل الأديان، كما يشير هو، من حيث اختلاف فكر ومفاهيم زمن ظهور رسالاتها عن فكر ومفاهيم زمننا الحالي بكل تعقيداته وأفكاره الفلسفية السياسية التي طورها الإنسان في محاولة جادة لاقتناص شيء من الاستقرار الحياتي والسلام المعيشي بعد قرون من الحروب الدينية العنيفة. فقيم المساواة المطلقة، والحريات الفردية، والديمقراطية، والانتخابات وحكم الشعب لنفسه، ومحاسبة الحاكم، وغيرها من القيم الحديثة، كلها لا يمكن أن تجد مكاناً واضحاً في القراءات الدينية التراثية لأي دين، حيث إنها تبلورت بعد نيران حروب حارقة شديدة وتشكلت كنتاج للحاجة الماسة إلى الاستقرار والتعايش، بعد أن فهم البشر أنه لن تكون هناك غلبة لفئة دينية على فئة أخرى، وذلك بحكم طبيعة الإيمانيات الدينية التي تدفع بالإنسان إلى الصراع إلى آخر لحظة في عمره من أجل إعلاء قيمه العقائدية الدينية. عند هذه الفكرة توقفت أوروبا لتأخذ أنفاسها ولتعترف بفشل السيطرة الدينية ولتتخذ من المنحى المدني حلاً لها، وعند هذه الفكرة توقفنا نحن، صراعاً ونزاعاً، رافضين إلا أن نعيش في القرن الحادي والعشرين، ولكن بأفكار القرن السابع وقراءاته.
إن إحدى أهم مشكلات مفكرينا الإسلاميين هي الإصرار على تقديم التراث على أنه فكر مثالي كامل متكامل، هي المحاولة المستمرة الحثيثة المسكينة على «دفس» الأفكار الحديثة في داخل قالب فكري من الماضي، مما يعيشنا جميعاً في حالة من التناقض الفكري والمعيشي المستمرين. نستنكر (الطبيعيون منا على الأقل) العبودية وزواج الصغيرات ومعاشرة الجواري وأسر الزوجة في نظام الزواج والسكوت عن مفاسد الحكام، وفي الوقت ذاته نرفض الاعتراف بتاريخية القراءات الدينية التي سمحت بكل هذا، نرفض وضعها في قالبها الزمني الذي كان جزءاً من تاريخنا لكنه لا يفترض أن يكون جزءاً من حاضرنا ولا مستقبلنا، نصر على صحة كل كلمة وردت في التراث مهما ابتعدت عن الحقوق الإنسانية والأفكار السياسية العصرية للديمقراطية، وفي الوقت ذاته نريد أن نعيش هذه الحقوق الإنسانية ونمارس هذه الديمقراطية العصرية، إنها حالة من التناقض التي في أقل أحوالها تتسبب في اضطراب هوياتي خطير متمثل في ازدواجية الشخصيات التي نعيشــها داخل أنفسنا كل يوم، شخصية تقر بصحة كل كلمة تراثية دينية رافضة فكرة وضعها في قالبها التاريخي، وشخصية لا تستيطع أن تعيش مع معظم هذه الأوضاع التراثية التي عفا عليها الزمن ورفضتها الأفكار الإنسانية والحقوقية الحديثة.
قراءة تجديدية، سلطة علمانية، تحرير الدين من السياسة والسياسة من الدين، المدنية الكاملة، هذه هي الحلول المطلوبة التي تبناها العالم قبلنا بمئتي سنة وتزيد، وإلا نبقى نعيش اضطراباتنا ونبقى نكتب كلماتنا حبراً على ورق.