بمناسبة خبر مفجع عن جملة إعدامات حدثت في الكويت قبل أيام، ومثلها نسمع أخبارها بين وقت وآخر في بقية الدول العربية، وبشكل أقل في دول غربية، كتبت رداً على سيدة بعثت لي تمتدح القصاص وعدله، أن هذه العقوبة ليست من الإنسانية في شيء، وهي عقوبة نتمنى زوالها في العالم أجمع وإحلالها بعقوبات تأديبية أو حامية للمجتمع من المذنب تكون ذات طبيعة إنسانية لا يلعب فيها بشر دور إله. الحديث يطول حول عقوبة الإعدام، ولربما أهم آثاره التي أعتقدها مخربة جداً هي ليست منعكسة في فقد حياة مجرم، وإن كان فقد الحياة دوماً كارثيا، ولكن أفظع الآثار تتجلى في الصورة المتبقية لدى الأحياء، في تحويل الموت إلى عقوبة بيد إنسان يستخدمها ضد إنسان آخر، في غرز مفهوم العنف عميقاً في المجتمع، فلا عنف أشد من سلب حياة، وإذا ما قُنن هذا السلب وأصبح ممارسة مستحقة وعقوبة مقبولة، أصبح العنف وسيلة مقبولة ومبررة مجتمعياً. إن أشد مخاطر عقوبة الإعدام تتجلى على الأحياء الباقين وليس على المعاقبين الذين انتهت حياتهم. ولكم فقدنا من أبرياء لصالح عقوبة الإعدام البشعة، ومن منطلق مبدأ أن ترك ألف مجرم حيا خير من إعدام إنسان برئ واحد، ولأننا بشر لن ينتهي هامش الخطأ عندنا، ولأننا بشر ولسنا آلهة حاكمين، ولأننا بشر إنسانيتنا أهم ما يميزنا، لابد لهذه العقوبة البشعة أن تنتهي.
المثير ليس الموضوع بحد ذاته على قدر المسار الذي سار فيه الحوار، فبعد أن تبادلنا رأيين، في أحدهما علقت محدثتي بأن هذه عقوبة إلهية وأن «أفي حكم الله الصريح في محكم كتابه شك؟» ورددت عليها أن «في قراءة وتفسير النص اختلافات وتطورا لابد لها أن تحدث» وضربت لها مثلاً ملك اليمين، فهو حلال ومذكور في القرآن في حين أننا لا نمتلك اليوم عبيداً أو جواري ولا نقبل الفكرة أصلاً، لأن القراءة تتغير والمفاهيم تتغير والتفاسير تتغير كذلك، أقول بعد هذا الحوار القصير تحول النقاش مباشرة إلى المسار المعتاد: «احترم رأيك الذي ينطلق من مبادئك العلمانية الليبرالية البعيدة عن الدين» ثم اتبعت ذلك بإشارة إلى تبحرها العلمي (هي حاصلة على الدكتوراه في العلوم الشرعية) وأنها تتكلم من منطلق علم على ما يبدو أنا لا أملكه كما فهمت تضميناً من كلامها. في لحظة أصبح الموضوع شخصيا متعلقا بطريقة تفكيري ومنطلقاتي لا بمنطقية المادة التي يدور حولها النقاش. وهكذا يتحول الحوار مع الكثير من المتدينين عند الإشارة إلى المواضيع الحساسة في الشريعة إلى «منطلقاتنا العلمانية والليبرالية» وإلى «تأثرنا بالغرب» وإلى «مهاجمتنا للدين» وإلى «جهلنا بالشرع» وفي كل ذلك قراءة للنوايا وتخمين ما في عقل الآخر ابتعاداً تاماً عن مضمون النقاش وأصل الموضوع. طبعاً انتهى الحوار لتأسفها من موقفي النفسي وغير الموضوعي وأنها لو علمت «لما صرفت وقتاً له» أي للحوار، وانتهيت أنا بإخبارها بأنني «لست فوق أحد لا بعلمي ولا بوقتي في الحوار».
مذهل هذا المسار الذي لا يتغير في الكثير من النقاشات، فما أن تطرق خطاً دينياً أحمر حتى تتدلى الاتهامات عوضاً عن الردود المنطقية، وتصبح أنت متهماً بالمبادئ الليبرالية والعلمانية التي يحق لك التفاخر بها في الواقع. المثير للإعجاب هي طريق إنهاء الحوارات التي تتم على طريقة لي الذراع، حيث يواجهونك بتهديد مبطن «أتخالف القرآن؟» وهكذا يموت الحوار قبل أن يبدأ، وينتهي عند سؤال له إجابة واحدة، ولا أعرف أي محاور موضوعي يمكن أن يسأل سؤالا له إجابة واحدة التنحي لما عداها أو محاولة تطويرها أو تغيير التفكير فيها يوردك الكوارث ويتهددك في حياتك. تعاني كل نقاشاتنا، حتى البعيدة عن الدين، خطر يتهددها ما أن يأتي ذكر الدين أو ما أن يتم الاقتباس من القرآن، حيث لا مفر من الصمت، ولا مسار سوى الموافقة، فيموت الحوار وهو بعد لم يولد، وينتهي إلى الانتصار المعتاد الفقير.
عقوبة الإعدام بشعة، واجترار حجة أن لو كنت أنا متضررة لرغبت بالقصاص هو اجترار بائد، فلا يمكن تحكيم المصاب في من ارتكب المصيبة، فالأحكام لا يجب أن تكون عاطفية نابعة من الرغبة في الانتقام ولكن يجب أن تكون منطقية إصلاحية. والقرآن الكريم يقوم على تفاسير يجب أن تراجع في عمقها، وهي قابلة، أي القراءات والتفاسير، للتغيير الطبيعي الذي يُحدثه الزمن والتطور العقلي والمبدئي والإنساني. ونعم الليبرالية والعلمانية، رغم قدمهما، مبدآن إنسانيان أنقذا حيوات كثيرة وحررا مجتمعات كثيرة، ورغم نواقصهما الجمة، الا أنهما أفضل ما توصلت له الإنسانية إلى الآن من حيث الأنظمة الفكرية والسياسية، هذا والبشرية لا تزال بانتظار التطور القادم الأفضل. وفي الحوار لا خط أحمر، لا سقف، لا مفهوم قادم من عمق الزمن تتهددني به، لا قداسة تشوح في وجهي بها، لا فكرة فوق النقد، لا اتهام تلويثي للسمعة لربط يدي «العلمانية الليبرالية»، الزمن تغير وأساليب الحوار تطورت، فمتى تأتون هنا وتناقشون من هنا؟