قبل أيام أصدر وزير الدفاع في الكويت قراراً بفتح باب الالتحاق للنساء بالخدمة العسكرية، وهو قرار أولاني مشاعر شديدة التناقض، ففي حين أنني أنفر مشاعرياً وأتباعد أيديولوجياً مع وظيفة وطبيعة وحتى طريقة تشكيل المؤسسة العسكرية، إلا أنني أتفهم ضرورة تكوينها في الدول المدنية المعاصرة، كما وأتفهم تعدد الأدوار المناط بها والتي لا ترتكز على، بل تكاد تبتعد اليوم، عن الدور الحربي التقليدي المتعارف عليه لها. بكل تأكيد، كمواطنات كويتيات، أَشعَرنا القرار، رغم تأخره الطويل، بتقدمنا خطوة صغيرة في مجال المساواة المدنية. فها هي فرصنا تتقدم خطوة، ومعها مسؤولياتنا وواجباتنا تتسع خطوة، ومعهما لا بد لحقوقنا أن تأخذ خطوات للأمام وصولاً، وليس توقفاً عند حق إعطاء المرأة الجنسية الكويتية لأبنائها. بلا هذا الحق لا تَكْتَمِل مواطنة المرأة ولا تُحْتَرَم إنسانيتها.
في نظري، كل وظيفة أو واجب أو مسؤولية «تكتسبهم» المرأة عدلاً ومساواة في دولتها المدنية هي انتصار لفكرة مساواتها (رغم قدم الفكرة واستشكاليتها الفلسفية) مع نظيرها المواطن الرجل. لا توجد حقوق بلا واجبات ولا استحقاقات بلا مسؤوليات، ولا أقوى حجة اليوم من دخول المرأة الكويتية للسلك العسكري لتقوية مطالبتها باستكمال حقوقها المدنية والمواطنية والإنسانية في السكن والرعايات الأسرية المختلفة والوصاية على الأبناء، وغيرها من الحقوق التي تحتاج مراجعات قوية وجذرية لعدة قوانين، بما فيها وعلى رأسها قوانين الأحوال الشخصية وقوانين التجنيس في البلد، ليصبح تجنيس الكويتية لأبنائها عملية أوتوماتيكية مستحقة بالولادة.
لكن، ولأن كل ذلك يلوح في الأفق، لربما تماماً كما حزرتم، ثارت ثائرة النواب البرلمانيين الإسلاميين في البلد. وفي رد فعل أولي تجاه رد فعلهم، أصابتني الغضبة المتوقعة، وصدر عني رد الفعل الاتهامي المعتاد، إلا أنه وخلال وقت قصير بدأت أتعاطف بصدق مع هؤلاء النواب وهم محشووين بين قضبان زمن سريع عنيف حارق، يمر قطاره فوق الجميع باندفاع لا يرحم. بالتأكيد، لا يمكن إنكار تلبس العديد منهم ثوب الإسلامي السياسي لكسب رضا الناس وضمان أصواتهم في الدورة الانتخابية اللاحقة دون أي درجة صدق لمعارضتهم التي يعرفونها ستكون شكلية بلا أي فحوى حقيقي ذي وزن مؤثر. فذات المعارضات هذه تعالت سابقاً مع كل سَبْق واجباتي أو حقوقي للمرأة، لتعود «فتتسطح» أمام موج التغيير الهادر، بل وتتحول لمساندة ثم استفادة من مكتسبات المرأة، ولربما أهم الأمثلة على ذلك هو المعارضات الإسلامية السابقة لدخول المرأة إلى مجلس الأمة ثم استفادة الإسلاميين العظمى من صوتها لاحقاً.
لكن رغم كل ذلك، فهناك فئة صادقة التألم من هذا التغيير الذي لا يرحم، يستشعرون سرعة الزمن تحرق جلودهم، وقطار التقدم والتطور يدوس قلوبهم بلا رحمة. كل ما يعرفونه «حق» يصبح عرضة للتغيير، وكل ما يؤمنونه «صح» يظهر له وجه آخر. هؤلاء يركضون في سباق لن يكسبونه، لم يسبق لبشر أن كسبه في الواقع، ولربما هم في عميق وعيهم يدركون أنهم لن يكسبوه، إلا أنهم يحتسبون مقاومتهم عند الله، ظانين أنها مستوجبة وأنهم آخر جنوده الشرفاء على الأرض. كم هي مهمة قاسية وكم هو موقف مخيف وكم هو شعور قاس بالوحدة والعزلة تلك التي يتحملها هؤلاء على عواتقهم!
«إذا الرجال ما هم كافين لن تنقذكم ولن تحميكم حريمكم، عيب، أكبر عيب أنكم تحتمون بحريمكم» هكذا رد أحد نواب البرلمان السابقين على خبر السماح للمرأة الكويتية بالدخول في الخدمة العسكرية، وهو رد بالرغم من كل ما يحمله من تراجع وفكر عشائري قديم، إلا أنني استشعرت أنه بزغ من عمق قلب الرجل، وأنه متألم من هذا التغيير الذي بدا له أنه يطاله ويطال كل ما هو صحيح وثابت في حياته. تتسارع وتيرة الحياة اليوم بشكل يفوق قدرة هؤلاء على مواكبتها، حيث يعيشون في دول مدنية مواطنية حديثة بأفكار عشائرية ومحافظة لا تمت للواقع والزمن بصلة، لا بد أن هذا واقع متناقض مؤلم تغريبي، يجعل الإنسان يشعر أنه خارج زمانه ومكانه. لا أدري إن كانت هناك حلول يمكن أن تريح من يفكر بهذا الأسلوب وبذلك الجمود عند حقائق مطلقة لا درجة من المرونة فيها، هي حياة مستمرة من المعاناة مع زمن يمشي للأمام وأبداً لا يعود إلى الخلف، وقطار حاد العجلات، ملتهب القضبان، مندفع شمالاً دون أي فرصة عودة للجنوب. وكما اعتاد هؤلاء وجود المرأة في البرلمان وفي وزارات الدولة كافة، وفي سلك الشرطة وفي القضاء وفي السلك الدبلوماسي وفي مجال الطيران وغيرها من المجالات التي كانت تبدو عصية، سيعتادون المرأة بالبزة العسكرية، لا خيار لهم، ولا خيار لنا، الخيار خيار الزمن والمنطق وطبيعة الحياة.