في الهزيع الأخير من الليل أجلس لأكتب هذا المقال وقلبي ووعيي هناك، في غرفة المستشفى التي يرقد فيها والدي، هادئاً رغم آلامه، باسماً رغم دوار رأسه الذي يسمح لعقدة وجع أن تتسلل بين الفينة والأخرى بين حاجبيه، ألتقطها رغم محاولته إخفائها، فأتمنى لو أنني حملت كل آلام جسده كما حمل هو ولا يزال كل آلام جسدي وقلبي وروحي. والدي الذي يعطي لهذه الحياة معناها، بابا الذي لا أزال أستشعر طفولتي في حضرة حضنه ورحمته، صديقي وحبيبي الذي أخبرت مُدَرِّسة الدين ذات طفولة حين علمتنا أن رواد جنة الآخرة لهم أن يختاروا من يتزوجون أنني سأتزوجه حين أدخل الجنة.. سندي وظهري ولربما الإنسان الوحيد الذي أحبني محبة خالصة بلا شكوى أو تذمر أو عتاب أو انتقاص، أحبني لأنني أنا، وأحبني رغم أنني أنا، هذا القلب الذي ينبض مرة لي ومرة له، ليحيا ويحييني معه، هذا الرجل يرقد الآن في المستشفى منطوياً على ألم لا يريد أن يعترف به، باسماً في وجه عرقلة جسدية لم يسمح لها أن تغير ملمح وجهه الرحيم، هو كما هو كبيراً وقوياً وشفيقاً أمام كل وأي من مصاعب الحياة.
كنت أنتوي أن أكتب عن الأحداث الأميركية، ثم تحول مسار المقال إلى موضوع القرار الخطير بإلغاء حساب الرئيس ترامب من تويتر، وهذا شأن هو لعمري أكثر خطورة من أي شأن آخر. فأن تعلن شركة تواصل اجتماعي عن تصرف رقابي من هذا النوع، هذه خطوة مزلزلة ومدعاة أسئلة كثيرة لربما أهمها ما يدور حول المصير الإلكتروني لكل “الطغاة” السياسيين ومآل كل حسابات “المتطرفين والإرهابيين” والأهم والاخطر هو ما يدور حول تعريف هؤلاء: من هو الطاغية أو المتطرف أو الإرهابي ومن له الحق في تحديد التعريف؟ نعرف بالتأكيد مدى تأثير السياسة الخارجية الأميركية على المشهد العالمي وحجم نفوذ كلمات ترامب على الناس حول العالم أجمع، ولربما من هذا المنطلق ليس هناك وجه مقارنة بين تأثير “التواصل الاجتماعي” لترامب عن ذاك الذي لأي شخص آخر مهما بلغ نفوذه، إلا أن الموضوع يتعدى في أهميته وحساسيته أهمية مواقف ترامب وحساسية كلماته ونفوذ الولايات المتحدة على العالم كله بل ويتعدى أهمية البشر مجتمعين، ذلك أنه “إذا ما ذهب هذا المبدأ، هم (أي كل البشر) ذهبوا” فكيف لم نستطع أن نميز معنى وخطورة هذا القرار التويتري على مبدأ تحرير الرأي؟ كيف بارك العالم تكميم فاه “أقوى رجل في العالم” ولم يميز أنه إذا كان لذلك أن يحدث مع رجل البيت الأبيض فما لنا نحن ليحمينا؟ وإذا ما استحسنا جميعاً إسكات ترامب إلى الأبد، فهل سيتهادى إلينا المستقبل بكمامات جاهزة تُسكتنا بعد أن استحسنا السابقة الضخمة التي ستعلق سيف رقابي ضخم فوق رؤوسنا جميعاً؟
كان يفترض أن يكون موضوع المقال بأكمله عن كارثة ارتجاج حرية الرأي تلك على مسمع ومرأى من العالم أجمع، كان يفترض أن يستعرض المقال الوجه الآخر كذلك لهذا الرأي، حين تصبح تكلفة حرية الرأي عالية وما إذا كان الموقف الأخلاقي يستدعي التضحية ببعض منها وحماية أرواح الناس من تأثيرها. كنت سأسأل وأتساءل وأغضب وأنفعل في المقال، إلا أن ذلك كله بهت تماماً أمام جسد والدي الذي تداعى بحمى شديدة إثر عملية لساقه قبل أيام. صارع هو على مدى الثلاثة أيام الماضية التهاب أصاب جرحه، ويح قلبي ليت الجرح في كبدي وقلبي ورئتي ولا اقترب يوم من ساق والدي، ولكنه قدر الأجساد، وهو قدر يحاربه والدي بثقة وثبات وتحسن مستمر، لكنه تحسن بطيء بعد لم يُعِد لقلبي نبضه المنتظم ولا لعقلي القدرة على التفكير في شيء أو أحد سواه، هذا الإنسان فخم الروح الراقد على فراشه الأبيض الذي هو كذلك بهت أمام بياض ونقاء روح الراقد عليه.
“ماذا حدث بالنسبة لقانون عديمي الجنسية بابا، طمنيني؟” يسألني هو إبان راحة استبدال أكياس المضادات الحيوية التي تتسرب ببطيء إلى جسده. “يا بابا ارتاح الآن، سنجد كل الوقت للمعارك القادمة”، لكن هذا الفارس لا يستريح، لا أوقات إجازة لديه طالما أن أصحاب القضايا الحقوقية والإنسانية لا يأخذون إجازات من مصاعب الحياة. يعكف الآن على كتابة كتاب موسوعي ضخم حول حقوق الطفل في القانون، ليأتي المرض هذا فيعطله لأيام وليثير حنقه بسرقة سويعات عمل ثمينة لديه، فكل يوم بلا عمل، بلا قراءة أو بلا كتابة هو يوم مهدر بالنسبة له. “سينتصر الحق يا بابا، لابد أن ينتصر ولو بعد حين، ألم تخبرني بذلك دوماً؟” أخبره وكأنني أطمئن نفسي، “لا شك في ذلك، ولكن لابد من العمل والاستمرار والإصرار”. أخذت يديه بين يدي وقد ذهب في غفوة إرهاق، لاحظت أن أصابعي تشبه أصابعه، دسست رأسي عند عنقه، تركت خدي يتحسس وجهه الدافئ وقد انغرس زر دشداشته أسفل ذقني. كل شيء باهت يا بابا وأنت تتنفس بثقل، عد لصحتك حتى يعود للحياة معنى، للعمل قيمة، وللقضايا هذا الوهج والحماس اللذان طالما سكنا نفسي تجاهها.
ليت تويتر ما أقدم على هذه الخطوة الشائكة ذات التداعيات العميقة، فإن كان المقصد منها معاقبة، فتويتر قد حول “المخطئ” إلى “بطل” بهذا التعدي على حريته في التعبير، وإذا كان المقصد منها حماية، فتويتر قد غامر بالأمن الحقيقي، قد قامر بما هو أهم من حيوات البشر، قد ساوم على الحريات والحق في التعبير، وفي ذلك التهديد، كل التهديد الحقيقي لأمن وحيوات وكرامات البشر.
ليت مجلس الأمة الكويتي يترك النزاعات اللزجة القميئة جانباً، ليت الحكومة الكويتية تأخذ المرحلة الخطرة التي نمر بها مأخذ جد فتغير الأساليب القديمة التقليدية، فالناس ما عادوا هم الناس والصبر ما عاد هو الصبر. ليت القضايا الإنسانية تأخذ مكانها المستحق في الصف الأول، ليمر قانون عديمي الجنسية كما تصوره والدي وخَطَّه في القانون القوي المحكم الذي تقدمت به جمعية المحامين كمشروع حل لقضية “البدون” في الكويت، ليت أمله في استتباب عدل هذا القانون يتحقق وقلقه على مسار القضية ومصير أصحابها يهدأ بتحقق العدالة الكاملة التي يؤمن بها هو في أعماق نفسه.
ليت ألم جسد والدي يهدأ، ليهدأ ألم روحي وليعود للحياة شيء من طعمها وليعود لنفسي شيء من توقها وليعود لإرادتي شيء من صلابتها، ولأعاود الاهتمام بالدنيا ومجرياتها من جديد، هذه الدنيا التي هي الآن باهتة، ضبابية، مائعة الطعم، وستبقى كذلك إلى أن تنتظم أنفاس والدي وينتظم معها إيقاع الحياة.