ذكرت في مقال سابق، متحدثة عن الرقابة، أن الحكومة غير معنية، ويجب ألا تكون، بالمحاسبة على الأخلاق. ليست الحكومة أماً تربي أو أباً يعاقب، الحكومة جهاز كبير يدير الدولة وينظم شؤون أفرادها، يحكم بينه وبين الأفراد عقدٌ سياسي واجتماعي ينظم الشؤون ويحفظ الحقوق، إلا أن هذا العقد لا يمكن أن يخلو تماماً من قيم أخلاقية مهمة لإنجاح العملية التنظيمة، سواء قيم أخلاقية تحكم العلاقة بين الشعب وحكامه أو بين أفراد الشعب أنفسهم، وهذه القيم الأخلاقية، والتي أبرزها قيمة الحرية، كانت هي موقع التباين في نظريات مفكري علم الاجتماع العباقرة أمثال توماس هوبز، وجون لوك وجان جاك روسو.
السؤال هو كيف يمكن لحكومة أن تفرض قيمة أخلاقية؟ لربما المعضلة هنا تكمن في معنى الكلمة، فالقيمة الأخلاقية لا يمكن بأي حال أن تفرض، هي يمكن أن تُعَلّم، يمكن أن تُبَرمج في العقول، يمكن أن تُسَوق، أما أن تفرض بقانون أو تُزرع بعقوبة فهذا ما يستحيل عمله. هنا يجب التفرقة بين فكرتين أساسيتين: فكرة الإيمان بالقيمة الأخلاقية وفكرة تفعيلها. يمكن للحكومة أن تفرض تفعيل قيمة الحشمة (أياً كان معناها) على سبيل المثال، إلا أنها لا يمكن أن تفرض القناعة بها، لذا نجد أن معظم سكان الدول المتشددة “شكلهم” داخل الدولة غير ذاك خارجها.
وعليه، وحيث إن القيم الأخلاقية نسبية جداً، فلا يمكن افتراض سوى حدود دنيا لهذه القيم التي يمكن للحكومات الديمقراطية أن تسوق لها، لا أن تفرضها، وذلك بدءاً بأن تكون الحكومة هي القيمة التي تود أن تسوق. إذاً، حين يتحول الشعب، في ظاهرة قوية، إلى كراهية الآخر، إلى النظر بدونية للمختلف، إلى الرغبة في الانعزال عن كل من لا يحمل “أصالة” الانتماء إلى البلد، إلى تداول جمل عنصرية مثل “الوافدين كلونا” أو إلى تبادل السخرية تجاه لهجة فئة معينة أو تنميط شعب كامل، وحين يتوجه الشعب بمجمله للواسطة كحل، حين يعتاد الفساد كمعايشة يومية، حين يصمت تجاه بطالة مقنعة يتكدس من خلالها الموظفون في الإدارات التي لا يعمل فيها حقيقة سوى شخص أو اثنين، غالباً من المقيمين، أو حين يصمت تجاه بطالة مفعلة تصل رواتب أصحابها الذين لا يضعون قدماً في مقار أعمالهم إلى بيوتهم، حين يأخذ بدل عمالة، بدل إعاقة، معونة بيت الزكاة نصباً واحتيالاً، حين يتعايش وارتفاع أعداد القوانين وهبوط مستوى الانضباط، حين يتقبل وأحياناً يشجع امتداد مأساة بشر لأكثر من خمسين سنة على وقع وعود لا تتحقق، يغذي مطاطيتها الكراهية والعنصرية، حين يصفق لإيداع مفطر رمضان أو كاتب تغريدة في السجن ويتغاضى عن تصييف ناهبي الملايين في لندن وباريس، حين تتحول كل هذه المعضلات الأخلاقية إلى ظواهر عامة، فاعلم أن الشعب على “دين” حكومته، وأن المشاكل ما تحولت إلى ظواهر إلا بتسويق ممنهج ومع سبق الإصرار والترصد.