لصغيرتي ياسمينة كل سنة موضوع نضالي محدد، تتبناه وتنشط فيه على مدى أسابيع متواصلة، ثم تلهو، تأخذها دراستها ولعبها وبرامجها التلفزيونية والإنترنتية إلى عالم ناصع البياض، تسكن فيه في غيمة من البراءة والنقاء، ترى حولها بياضاً تلونه سنوات عمرها، يصفو قلبها ويبتهج وهي تذكرني بين الفينة والأخرى “ماما، الأطفال بخير، أنا رسمت الرسمة وتبرعت”، فأتركها حيث أمان غيمتها، حيث صفاء وبساطة الدنيا حولها لتعتقد أنها حلت المشكلة وأن الدنيا كلها… تسكن معها في غيمتها. أول أنشطتها كانت لأطفال هايتي بعد أن سمعت بالإعصار الذي شردهم، رسمت رسومات وباعتها على الأهل والأصدقاء، علقت إعلانات في المدرسة وفي البيت، جمعت مبلغاً منمنماً وتبرعت به للأطفال، ثم تربعت في غيمتها وفي ضميرها ناصع البياض أن حلت المشكلة. في السنة التي تلتها نشطت من أجل أطفال الصومال، أتذكر أنها كانت تحاول مشاهدة صورهم والاطلاع على الأحداث من خلال الإنترنت. تجلس معي في المكتب وكمبيوترها في حضنها، تطلق شهقات صغيرة كلما واجهت صورة قاسية، أقاوم نفسي ألا أسحبها من هذا الألم، علي أن أتركها تعلم بوجوده، لابد أن أساعدها أن تفتح ثغرة في غيمتها البيضاء تطل منها على العالم الحقيقي. أتذكر قرارها في ذلك الوقت، “ماما مابي قرقيعان ولا فستان العيد، نتبرع بهم لأطفال الصومال”. وقفت غصتي في حلقي، وكأن كل حرمان هؤلاء الأطفال تجلى في حرمان ابنتي من قرقيعانها وفستانها، هكذا نحن البشر تضخم أنانيتنا آلامنا وتصغر من معاناة الآخرين. اتفقنا أنا وياسمين، تبرعت بمبلغ القرقيعان والفستان للهلال الأحمر الذي رحب بها كل من فيه ترحيبا لايزال يرن في ذاكرتها لحد الآن معوضاً إياها بهجة الفستان والقرقيعان أيما تعويض، حيث استقبلها بوخالد، السيد برجس البرجس، بنفسه وأهداها قلماً جميلاً والتقط صوراً معها فارتبط وجدانها عميقاً بهذه المؤسسة الرائعة. بعدها صنعت بيديها غلافاً وردياً فاقع اللون عليه رسالة إنسانية مليئة بالأخطاء الإملائية، لفلفته على قطع شوكولاته مخفضة الثمن ووزعته في مناسبة قرقيعان وهي تزهو بين كل أقرانها “قرقيعاني هذه السنة لأطفال الصومال”. منذ بداية هذه السنة، بدأت ياسمين تجمع مبالغ صغيرة تشتري بها خيوطاً صوفية رقيقة، تغزلها أساور ملونة وتبيعها بمبالغ من ربع إلى نصف دينار حسب عدد الخيوط فيها. “سيذهب ثمن الأساور هذه للأطفال يا ماما”، أخبرتني، “لأطفال الصومال يا ياسمين”، “لا، خلاص أنا ساعدت أطفال الصومال، الحين لأطفال البدون اللي ما يروحون المدرسة”. اجتهدت أكتم ضحكتي لتحتفظ الصغيرة باعتقادها أن أطفال الصومال كلهم، بعد تبرعها، قد دخلوا في غيمتها وهم الآن سعداء آمنين. ومع بداية رمضان عاد قرارها “هذه السنة القرقيعان سيكون إهداء لأطفال البدون، كلهم لازم يروحون السكول ماما”. نظرت في عينيها الصافيتين، أأجلسها فأخبرها الحقيقة؟ أأقول لها من يتسبب في ألمهم؟ أأعلمها من يمنعهم “يروحون السكول”؟ لا سأتركها تعتقد أن قرقيعانها سيحل المشكلة، ستعلم الحقيقة قريباً، لكن اليوم، أريدها أن تعتقد أن لقرقيعانها نفس الأثر السحري الذي يحل المشاكل كلها، قرقيعان عجيب، أنقذ أطفال هايتي، وأشبع أطفال الصومال وعلم أطفال الكويت البدون. كلما عملت ياسمين بمثابرة على مشاريعها الصغيرة هذه، تضاءلت مشاريعي وانكمشت، فيبدو أن لمشروعها أثراً ومذاقاً يتعدى كل مشاريع الكبار المعقدة. هي تحلها بثمن قرقيعان وفستان، لم يصعب على الدولة بأكملها إذن أن تحل المشكلة؟ لم لا تستطيع الحكومة بكل أدواتها وإداراتها ومستشاريها أن تنظر من ثغرة الغيمة: هؤلاء أطفال، لازم يروحون السكول، وتكون عندهم أقلام رصاص ومساحات ومقلمة على سوبرمان وهالو كيتي وجنطة كبيرة للكتب وجنطة صغيرة للأكل، وبس، هذا هو المنطق ولا يوجد غيره. عندما ينعصر قلبي كثيراً أندس في فراش ياسمين، أحضنها حتى أسمع طقطقات ضلوعها وهي تتأفف مني “ماما امشي لو سمحت عني شغل”، لكنني أبقى بإصرار علني أعود فأدخل الغيمة التي غادرتها منذ زمن، لدقيقة، لثانية، بودي أن أرى الدنيا كما تراها ياسمين، للحظة بودي أن أشعر أن الحلول بهذه المنطقية والمباشرة، لبارقة زمن، أود أن أرى البياض وأعود أشم رائحته النقية. لكنني حتى وأنا في سريرها تفصلنا الغيمة، هي داخلها وأنا… دائماً في الخارج، فأراني أنشد للعظيم إيليا أبي ماضي “كيف صار القلب روضاً ثم قفراً؟ لست أدري”.
«آخر شي»: سيداتي الأمهات الجميلات، لقد أخذ القرقيعان منحى آخر مبتعداً تماماً عن تقاليديته وهدفه ومبتغاه، فماذا لو وظفنا تلك العادة القديمة الجميلة لغرضين: نتذكر بها تاريخنا وتراثنا، ونخدم بها هدفاً سامياً نبيلاً نعلم من خلاله أبناءنا مبدأً حياتياً يعيشون به ومن أجله؟ سيكون لقرقيعان طعم مختلف تماماً لو هبط من زهو فخامته المصطنعة إلى جمال بساطته الطبيعية ومبدئيته السامية، لا تفتْكُنّ الفرصة ولا تحرمن أنفسكن وأطفالكن الرائعين هذه التجربة، وكل عام والجميع بخير.