للتو بدأت قراءة كتاب “نظام التفاهة” لمؤلفه آلان دونو ولمترجمته الدكتورة مشاعل الهاجري، مترجمة مقال “أخلاق الطوارئ” الذي كان موضوع مقالي السابق والذي كان عنوانه “الأنانية الأخلاقية”. في ظني سيكون هذا الكتاب مصدر عدد من المقالات القادمة والتي سأبدأها اليوم مع بداية قراءتي لمقدمة المترجمة والتي أراها بأهمية مادة الكتاب بحد ذاته إن لم تضف إليها في الواقع خصوصا للقارئ العربي الحديث القراءة للمترجمات الأجنبية. لنعطي فكرة عن موضوع الكتاب، أنقل هنا أول تقديم للمترجمة لمادته حيث تقول:
يدور موضوع هذا الكتاب حول فكرة محورية: نحن نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام أدى، تدريجياً، إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة.
بذلك، وعبر العالم، يلحظ المرء صعوداً غريباً لقواعد تتسم بالرداءة والانحطاط المعياريين: فتدهورت متطلبات الجودة العالية، وغيب الأداء الرفيع، وهمشت منظومات القيم، وبرزت الأذواق المنحطة، وأبعد الأكفاء، وخلت الساحة من التحديات، فتسيدت إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية، وكل ذلك لخدمة أغراض السوق بالنهاية، ودائماً تحت شعارات الديموقراطية والشعبوية والحرية الفردية والخيار الشخصي، حتى صار الأمر يذكر بما كانت مونتسكيو Montesquieu يحذر منه من وجوب صون الحرية من الابتذال، عندما قال إن “ممارسة الحرية من قبل أكثر الشعوب تمسكاً بها تحملني على الاعتقاد بوجود أحوال ينبغي أن يوضع فيها غطاء يستر الحرية مثلما تستر تماثيل الآلهة”. (13-14)
كتبت بعد قراءة هذا المقطع مباشرة ومصاحبة لنشره على تويتر أقول “هل واتتكم غصة بكاء؟” وفي حين أن تسيد التفاهة هذا يمكن أن يكون ظاهرة عالمية، ولربما هذا ما سيدلل عليه المؤلف لاحقاً وأوافيكم به أنا في مقالات قادمة، إلا أن هذا التسيد له مقام إمبراطوري في عالمنا الشرق أوسطي، حيث يبعد الأكفاء وتهمش القيم وتبرز الأذواق المنحطة ويسود التافهون، ولا لفظ أنسب لوصفهم من “تافهين” رغم قسوة التوصيف والصعوبة الشخصية التي أجدها في استخدامه، ليحددوا لنا كل شيئ، ما نرى بأم أعيننا أنهم يحددونه وما لا نتصور في يوم أنهم قادرون على تحديده. هؤلاء يحددون لنا من سعر عبوة الجبن على رف الجمعية إلى طبيعة ونوعية عاداتنا وقيمنا بل ومعتقداتنا الدينية، وحين يحدد لك التافهون طعامك، يصبح مائعاً، فكيف بقيمك ومعتقداتك التي يسعرونها بالدولار؟
بكل تأكيد، ظاهرة تحكم التفاهة هي ظاهرة عالمية، إلا أن مظاهرها، آثارها ونتائجها هي “نموذجية” في عالمنا العربي. ففي حين يتسيد التافهون أحياناً خارج حدود الشرق الأوسط، داخل حدوده هم السائد وليس العرضي، هم القاعدة لا الاستثناء. في المجال الأكاديمي التعليمي مثلاً، بما أنني أعمل فيه، هناك استخفاف ملحوظ ليس فقط بنوعية المادة العلمية بل وبنوعية مقدمها، لم يعد هناك تطلع للجودة العالية، فهذه تستهلك جهدا ووقتا ومالا يمكن أن يوضعوا جميعا للدفع بالأثرياء لأن يصبحوا أكثر ثراء عوضاً عن بذلها كلها في خلق معلمين أفضل ومادة تعليمية أكثر قيمة. ضاعت معايير الجودة إلا أن الساحة لم تخلُ من تنافس، إنما هو تنافس من نوع ثان، تنافس على التنافس إن صح التعبير. في مدارسنا الكويتية مثلاً، حيث يعاني التعليم الحالي من درجة مريبة من التدني الأدائي والتحصيلي، أصبح هناك تنافس على اجتياز المقررات الدراسية بأقل قدر من الجهد وأكبر قدر من الدرجات، استخداماً للوساطة أو ممارسة الغش، والتي أصبحت ظاهرة خطرة على الساحة التعليمية الكويتية، المهم أن يتم النجاح بأي طريقة عدا طريقة تحقيق تلقي معرفي حقيقي وفاعل. لا أعتقد أن المدارس الخليجية أو العربية عموماً في حال أفضل من المدارس الكويتية، وهو ما خلق حالة من اللامبالاة وعدم الاكتراث في المدارس العربية عامة، ليسود التافهون الجاهلون الذين يمتلك أهاليهم النفوذ و/أو الأموال لإنجاحهم وشراء الإجازات العلمية لهم، وليتصدروا هم المشهد اليوم، قياديين ومسؤولين ونوابا ومشرعين. إن ظاهرة شراء الشهادات العلمية المزورة هي كارثة تعليمية كويتية لا يزال المسؤولون حائرين في طريقة التعامل معها ومع أصحابها النافذين، ولا أخطر منها سوى ظاهرة بيع الشهادات المزورة المنتشرة في أنحاء العالم العربي القريب من الكويت والبعيد، هنا يشترون وهنا يبيعون، ليتحول التعليم إلى سلعة يبيعها ويشتريها التافهون.
نظرة سريعة على التعليم في العالم العربي تظهر لنا بوضوح خطوات “الصعود الى التفاهة”: تسيد قواعد الانحطاط، فالسماح بالوساطة وتفعيل النفوذ، فتدهور متطلبات الجودة وغياب الأداء الرفيع، فانهيار القيم وتحييد الأكفاء وصولاً إلى تسيد التافهين تماماً كما تقول د الهاجري، قس على ذلك خطوات “الصعود” في كافة الجوانب الحياتية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأخرى. في رأيي، التعليم هو المنطقة الأشد وجعاً، لربما أطرح هذا الرأي بغير موضوعية لأن المجال التعليمي هو مجال عملي، ولربما بقمة الموضوعية لأن التعليم هو البداية وهو المنتهى الأخير. في زمن ثوران المعارضة في الكويت بعد سنة 2012، كان أن قلت في حوار على تويتر أن الفساد السائد في الكويت أقل مظاهره هي سرقات المال العام الذي خرج الناس ليتظاهروا بسببه، الفساد الذي يجب أن يقلقوا منه هو فساد الواسطة والذي كان أحد أبرز وجوهه هو أحد أبرز وجوه المعارضة بحد ذاتها. قامت الدنيا وقتها بسبب اتهامي لرمز المعارضة بالمساهمة في الفساد، واليوم أزيد، لم يضف هو وأنماطه للفساد فقط، ولكن كذلك لنظام التفاهة الذي تسيد المشهد وهبط بالمعايير وحيد الأكفاء وأنعش سوق الأثرياء. إنه زمن التفاهة، زمن يرى في التزامك بقيمك ومعاييرك مبالغة وتزمتا، زمن يقول “فوت ولا تدقق حتى تعيش”، فهل نحن فعلاً نعيش؟