السكوت من ذهب


يعاني مسلمو العرب تحديداً أكثر من سكين في خواصرهم، فمن تاريخ دموي يثقل كواهلهم، إلى قراءات دينية متعصبة تعسر عليهم حيواتهم، إلى فقدان الهوية وأمان الانتماء في دول ليس لها كيان مؤسسي يشكل المواطن ويحميه، إلى «قلة الحيلة» أمام آخر حالة استعمارية فاحشة في وضوحها في العالم ألا وهي الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. كل تلك سكاكين تجعل العربي المسلم أسيراً لغضبه وضياعه وانمحاء هويته، حتى لم يعد يتبقى له سوى الهوية الدينية يعليها على مواطنته ويغالي في قراءتها ويتشدد في تنفيذها صانعاً منها نصلاً آخر في خاصرته عوضاً عن قطنة دواء تمسح على بقية الجروح وتخفف من أذاها. أصبح المسلمون، الذين من المفروض أنهم «مسلمين» لإرادة الخالق وصانعي «سلام» حسب التكوين اللفظي لاسم الدين، مصدر رئيس لصنع الإرهاب ولتعالي وتيرة العنف في العالم باسم قراءات رجعية للدين تسيدهم على الخلق وتعدهم ملك الأرض من أقصاها إلى أقصاها لاغية بذلك مفهوم التعايش السلمي والمشاركة الإنسانية للأرض.

بعد آخر حادثتين إرهابيتين ضد كنيسة بغداد والإسكندرية، تعالت ذات الاستنكارات متبوعة بذات النداءات من أجل «الحوار الحقيقي» بين المسلمين والمسيحيين كما ورد في قبس الأحد الثاني من يناير، إلا أنني أعتقد أن النداء الحقيقي اليوم يجب أن يكون باتجاه «إنهاء الحوار» والكف عن الجدل الثيولوجي المسكين في محاولاته اليائسة لتقريب وجهات النظر الدينية للتسويق لفكرة قبول الآخر، ولاعتقادي هذا ركيزتان أساسيتان: أولاً، أن الحوار دون الإيمان الحقيقي بمبدأ الاختلاف، بواقعيته وإنسانيته وأحقية البشر فيه، لن يجدي في يوم نفعاً، فلو تحاور المسلمون والمسيحيون دهراً، لن يؤمن هؤلاء بالثالوث المقدس مثلاً، ولن يقتنع أولئك بصعود المسيح إلى السماء متفادياً الصلب. من الجميل أن تكون هناك دراسات وجدالات وبحوث ثيولوجية بوتائرها المختلفة إذا ما كان الغرض منها البحث العلمي، وليس تقريب وجهات نظر بين إيديولوجيتين دينيتين مبنيتين على الاختلاف، بل يضرب في عمقهما التاريخي قراءات مناقضة تماماً للأحداث والتواريخ والرؤى، هذا بخلاف التباينات الإيمانية التعبدية، عندها لن تجدي تلك الدراسات نفعاً إذا كان الغرض منها إثبات «التقارب» و»الاتفاق» عاريين من فضيلة الاختلاف.

أما الركيزة الثانية لاعتقادي بضرورة «إنهاء الحوار» فهي حقيقة إن اعتمد مبدأ الحوار لن يكون ممكنا مع بقية الأديان الفلسفية التي نحتاج للسلام مع أصحابها كذلك. فعلى فرض أن معجزة ما تحققت بتقريب وجهات النظر المسلمة المسيحية، وصولاً إلى درجة من الاتفاق تضمن السلام، فهل هذا ممكن مع أصحاب الديانات البوذية والكونفوشية والتاوية والزرادشتية وغيرها الكثير المنتشر في أنحاء العالم بتفريعاتها وطوائفها المختلفة؟ هل سيكون «الحوار الحقيقي» وسيلة لاستتباب الأمن بين المسلمين والبوذيين مثلاً؟ بل هل هناك فرصة لمثل هذا الحوار من جانب الطرف الإسلامي؟ نحن، وإلى اليوم، لانزال ننادي بالحوار المسيحي الإسلامي المفروض أنه الأسهل بين كل الحوارات، ولا يكاد نداؤنا يجد صدى خجولاً في مؤتمرات وحوارات هنا وهناك، فكيف الحال بالنداء لحوار أكثر تعقيداً ومع إيديولوجية أكثر بعداً عن المعتقد الإسلامي؟ لا يكمن الحل في الحوار الديني، بل قد يكون هذا الحوار اليوم ضاراً أكثر منه نافعاً، إنما يكمن الحل في «الحوار الحقيقي» حول أهمية مبدأ الاختلاف وحيويته لنا إنسانياً وضرورة المحافظة على هذا الاختلاف والتنوع لا طمسهما، والتأكيد على أهمية تقديس حرية الآخر في تبنيه لمعتقده وطريقة ممارسته لهذا المعتقد مهما بلغت درجة الاختلاف ومهما تباعدت وجهات النظر ومهما تناقضت المنظورات الروحانية حتى لفكرة الإله وللطريق إليه. إذا أردنا أن نعيش في سلام، بل إذا أردنا أن نعيش «من أصله»، فلابد أن نتعلم أن «نقدس» مبدأ الحريات واحترام اختلافات الآخرين، لابد أن نزرع فكرة أننا بشر خطاؤون، وأن إفساحنا لمكان بجانبنا لمن يختلف معنا وتركنا باب التنوع البشري مفتوحاً هي فكرة تنزع أساساً من رغبتنا الغريزية في الاستمرار وحفظ النوع، وأنها فكرة لابد أن ننزف عرقاً ودماً لزرعها في قلوب صغارنا، و»لدفسها دفساً» في عقول كبارنا، أن نكون «دكتاتوريين» في فرشها حباً وإقناعاً وقسراً على أرضية المجتمع حتى نستطيع أن… نعيش.

يكفينا كلاماً، فكما نتحدث جميعاً عن الوحدة الوطنية، ثم يصوت الشيعة للشيعة والسنة للسنة و»يتفرع» القبائل ولا يقل عنهم «تطوفاً» و»تفرعاً» أغلبية الليبراليين، إن وجدوا، «نتحاور» جميعاً عن احترام الأديان، ثم نتفرق ليشتم الشتامون من فوق المنابر، ويتنابز المتنابزون من خلف الحوائط، حتى طوائف الدين الواحد لم يسلموا من نتائج «الحوار». شبعنا «حوارات سلمية»، نريد «حريات قسرية» تحقن الدماء.