لفت نظري التحليل المثير للاهتمام للزميل عبدالمحسن جمعة في مقاله ليوم الأحد 18 يناير 2015 بعنوان “بريطانيا البريئة وفرنسا الوديعة”، والذي من خلاله يفصل بعض السياسات الخارجية الأوروبية وتدخلاتها الإمبريالية والعسكرية التي قادت لتشكيل الكثير من الكينونات المتطرفة وتعزيزها في المنطقة، وأتفق مع ما جاء في المقال، وردده كتّاب آخرون كثر من خلال مقالاتهم القيمة، من دور رئيسي لعبته هذه السياسات والتدخلات في تشكيل مصير المنطقة، ثم في صنع ارتدادات عنيفة على العالم أجمع.
ولكن، وبما أن لهذا التدخل الخارجي دوراً بغيضاً رئيسياً لا تزال تلعبه القوى الكبرى بشكل أساسي من خلال الوجود المتوحش لإسرائيل في قلب العالم العربي ومن خلال أساليب أخرى مختلفة، إلا أنه ليس “الدور الرئيسي”، وبما أننا يمكن أن نبقى نتبادل الاتهامات بأن أوروبا وأميركا هما وراء أسباب العنف المصدّر اليوم من العالم العربي الإسلامي، وهو تبادل رفضه جمعة في مقاله، فإن شيئا لن يتغير وحالا لن تتحسن إذا ما فشلنا في رؤية المشكلة الحقيقية، وإذا ما عجزنا عن تحديد دورنا نحن قبل غيرنا.
لمعظم دول العالم إرث تاريخي دموي ثقيل، فيه من المعاناة ما يضاهي ويتجاوز معاناتنا، ومعظمها لا يزال يعاني تدخلات خارجية ومحاولات إمبريالية مستمرة من القوى العظمى والكبرى في العالم لإضعافها وتفتيتها من الداخل، إلا أن إحداها لم تصبح مصنعاً للتطرف ومصدراً للإرهاب كما أصبحنا نحن، وأخص بالذكر، وبكل أسف، الدول الخليجية الأقل معاناة والأقل تأثراً، لا تعرضاً، بالسياسات والتدخلات الخارجية عن غيرها من الدول العربية والإسلامية.
لقد عانت اليابان مجزرة لم تعانها أمة سابقة، ولربما لن تعانيها أمة لاحقة، إلا أن هذا التاريخ الدموي الأسود لم يحوّل أبناءها إلى قنابل موقوتة جاهزة للانفجار، وبلا شك مرت اليابان وأهلها بهذه المرحلة، مرحلة الغضب واللجوء إلى العنف، فالكاماكازي أو المهاجمون الانتحاريون كانوا اختراعا يابانيا إبان الحرب العالمية الثانية، إلا أن اليابان تركت كل هذا الغضب والعنف على عتبات الماضي، واعترفت بهزيمتها، ولملمت بقاياها وانقلبت داخلياً لتعلم أبناءها وتقوي اقتصادها، فتحدت نفسها وظروفها الطبيعية القاسية وتاريخها الصارم وذكرياتها الدموية وشعورها بالظلم والاندحار، وصعدت فوق كل ذلك وبسرعة قياسية.
وها هم البوسنيون الذين ضرب بهم الكاتب جمعة مثالاً، لا نسمع عن تصديرهم للعنف والإرهاب على الرغم من المجزرة التي عانوها ووصفها الزميل في مقاله، وها هم الأرمن يحملون ذاكرة ناعية حزينة لما حدث لهم على يد الأتراك لكنهم لم ينقلبوا إلى العنف والقتل بشكل عام وشائع، والفيتناميون عانوا ما عانوا على يد الأميركيين، ودول جنوب إفريقيا ودول شرق أوروبا، حتى تركيا الظالمة في حقب تاريخية ظُلمت في حقب أخرى وعانت، إلا أن أياً من هذه الدول لم تصدر عنفاً مبرمجاً ولم تفسح المجال لإرهاب مقنن آخذ في التحول إلى كينونات مشوهة شبه دولية كـ”داعش” و”النصرة” و”القاعدة” وغيرها.
نعم، هذه الكينونات استقوت بالسياسات الخارجية التي تعتاش على الانقسام والمعاناة والانشغال الدائم بالعنف الذي تعانيه الدول العربية الإسلامية، لكن البذرة عندنا، نحن زرعناها وسقيناها وهدهدناها، وعندما كبرت سلمناها للأرض والماء والهواء، خربناها وجلسنا على تلّها. لم تكن لهذه السياسات الخارجية أن تدخل لولا أن فتحنا لها الباب، ولم يكن لها أن تستقوي لو لم يكن لدينا من رجالات الدين من قرأ قراءة متعصبة، ومن أثار غضب الشباب وشهوتهم، ومن خرج علينا بفتاوى لا رأس لها ولا ذنب، لم يكن لها أن تستقوي لو لم يضع حكامنا، لحمنا ودمنا، أيديهم بأيدي وعاظ السلاطين، هذا يسند ذاك بالسيف وذاك يسند هذا بالفتوى، لم يكن لها أن تستقوي لو لم يدر كل منا ظهره لما يأتي به أبناؤنا من دروس من المدرسة، لما يتردد في خطب الجمعة، لما يبث من سموم في الإعلام الديني، فرفع كل منا يده قائلاً، ما لي شغل، يالله السلامة.
ولنواجه مثالنا الداخلي الأقرب، ما الذي قوى الحركة الدينية في الكويت؟ تسليح فرنسا في سورية أم السياسات الأميركية في شرق آسيا، أم الاستعمار القديم لبريطانيا، أم هو حتى الاحتلال الإسرائيلي المستمر لفلسطين؟ كل تلك من أقربها لأبعدها لها أثر، بلا شك أن السياسات الخارجية انعكست على توجهاتنا، نحن والمنطقة بأكلمها، بداية من ظهور حكومة ريغان الأصولية، وما جر ذلك من ثورات محيطة وصعود إخواني وتألق قاعدي، ولكن حقيقة في الكويت من اللاعب الأساسي؟ ومن المتسبب الرئيسي؟ إذا استطعنا أن نواجه أنفسنا بإجابة واقعية فلربما نستطيع أن نبدأ بالبحث عن حل. في الكويت تحديداً نغني على نغمة التدخل الخارجي كثيراً، فالتحرك الديني تدخل خارجي، ومشكلة البدون تدخل خارجي، والمظاهرات والاحتجاجات والمعارضة الأخيرة تدخل خارجي، طيب شي داخلي بس عن الحسد والعين.