بشراع الهوى نعلي
ونسمر في بحر الشوق
واشحلوه الزمن خلي
نصعد بالفرح لي فوق
لا بندر يوقفنا ولا مينا
مثل طيرين نتريق غناوينا
واحنا اثنين ثالثنا الهوى فينا
كل همسة نقولها نجوم
سهرانة في جناح الليل
واللمسة بردي في الروح
والضحكة اقهوة بالهيل
لا بندر يوقفنا ولا مينا
مثل طيرين نتريق غناوينا
واحنا اثنين ثالثنا الهوى فينا
يحكي علي الشرقاوي في هذه الأبيات التي شدا بها الفنان الرائع خالد الشيخ قصة حب خليجية بحرية بامتياز. قصة تبدأ من على الشاطئ، تكاد تسمع حفيف رماله ورقرقة موجه الهادئ في اللحن المتهادي الجميل، ليبدأ المحبين بفرد شراع المحبة ثم “التسمير” في بحر الشوق، فيمر الزمن بفرح دون أن يوصلهم البحر إلى ميناء محدد، فالشوق لا ميناء له ترسو القلوب عنده، أفقه يمتد ما امتدت الحياة بالمحبين.
يوم السبت الماضي أكملنا ثلاثين سنة زواج، “يوبيلا” من نوع لا أعرف مصطلحه. عيد زواجنا الثلاثين بلا احتفالية كبيرة أو رحلة رومانسية أو هدايا معبرة، أنا وهو والأولاد، في البيت، وجبة فطور من صنع يدي أحد مكوناتها خبز طازج الخبيز، لطالما بدى لي هذا الخبيز الطازج إشارة محبة وعمق وصال، كأن خطوات الخبز والعجن تحكي قصة تفان وإخلاص، ثم “قفال” اليوم استماعا لأغنية الحب الأجمل خليجيا “شراع الهوى”.
بدأ اليوم خشنا بعض الشيء. مع أجواء الحظر الكلي في الكويت، أصبح الخروج للتبضع لحاجات البيت عملية صعبة، حيث تستوجب أخذ موعد من السوق المركزي والذهاب الفردي للتبضع واستخدام عربة واحدة لجمع الحاجيات، وهي عملية يمكن تكرارها لكل فرد مرة كل ستة أيام. صباح السبت كان موعد ذهاب زوجي للسوق. استنفرت أنا استعدادا بالأدوات والمنظفات لتلقي الأكياس وتعقيم الحاجيات بالمعقمات والمطهرات، وهي عملية عصابية جرتني إلى سلسلة من التنظيفات انتهت إلى تعقيم علبة المعقم نفسه.
أرهقتني هذه العملية نفسيا وجسديا تماما، أتبعها إنهاك إضافي لإصراري على طبخ وجبة إفطار خاصة احتفاءً بالمناسبة. وحين انتهيت إلى الاستراحة على الأريكة فاجأنا الأولاد بإعدادهم مسابقة تحتوي مجموعة من الأسئلة يفترض أن تكشف من منا أنا وزوجي يعرف الآخر بشكل أفضل. فزت أنا بفارق بسيط خيب آمالي، فقط توقعت أن يأتي انتصاري ساحقا. بعد كل هذه السنوات لا زال هناك جديد لنكشفه لبعضنا البعض. اكتشفت أنا أن الوظيفة التي كان يحلم بها هي أن يكون طيار، واكتشف هو أن قياس حذائي 40، مما نبهني لحقيقة طريفة أكدها الأولاد معلنين أن ذلك يعني أن “بابا ما اشترى لماما حذاء أبدا”.
وحين هدأ اليوم وانقشع ازعاج الأولاد وتبددت قفشاتهم التي دوما ما تتضمن إشارات إلى أننا “شيبنا”، تفرغنا أنا وهو لشعور لا يهرم، “يسمر” بنا في بحر لا شاطئ له، شعور لا نقوله كلمات، ولا نتبادله هدايا، ولا نعبر عنه بالمظاهر الخارجية.
هو كان يجلس على مكتبه “بدشداشة” البيت وأنا كنت لا أزال بفستاني الذي ارتفعت منه روائح الخبيز. كانت الصورة بالنسبة لنا تامة الكمال. جلسنا في غرفة مكتبنا التي نعيش فيها كل حياتنا، يباعد بيننا مكتبينا والذين يباعد بينهما أريكة صغيرة وطاولتها التي تنتصف الغرفة. أتساءل، ألا يجدر بي أن أغير فستاني ذي روائح الطبيخ، أن أضع لونا ما على وجهي الذي لم يعرف لونا تجميليا منذ بداية الحظر، وأن أجلس وإياه على الأريكة فأقول له شيئا بمناسبة الثلاثين سنة؟
مع الإنهاك الذي استبد بي وبه في نهاية هذا اليوم الطويل، تبادلنا “تباعدا” من على مكتبينا همسات “كأنها نجوم، سهرانة في جناح الليل”، لم تكن همسات تقليدية من تلك الموصوفة لهذه المناسبات، كانت همسات شكوى وحنين وتذكر وتذكير. نقول جملتين ثم نستمع لأغنية، بين فترة وأخرى أذهب إلى مكتبه أقبل راحة يده، فتسري “اللمسة بردي بالروح”، نتذكر مسابقة الأولاد المضحكة وأجوبتنا المتعثرة، فترتفع ضحكاتنا ومعها روائح “اقهوة بالهيل”.
أحد أسئلة المسابقة كانت “من منكما عنيد أكثر”، فأتت إجابة كل منا تتهم نفسه، أنا اعترفت أنني أكثر عندا وهو اعترف ذات الاعتراف، وكأننا ضمنيا نعتذر لبعضنا البعض عن أي لحظة تصادم خلقتها لحظة عناد. ما كنا نحتاج أن نقول أكثر، تذكرنا هذه الإجابة وضحكنا، همسات تَذَكُر لحظات العند تبدت نجوما في ليلتنا وضحكاتنا على اعتذاراتنا الاعترافية في أجوبتنا فاحت بهيلها وزعفرانها.
كانت الاحتفالية كاملة، وكان اليوم تاما، بكل تفاصيله المتعبة، بكل سخريات الأولاد التي تخللته حول طول مدة زواجنا، بكل التهاني عبر وسائل التواصل التي ملأتها أنا بصورنا، بكل الأغنيات التي سمرنا في بحرها في آخر الليل، وحدنا في مكتبنا، يباعد بيننا مكتبينا، تباعد بينهما الأريكة بطاولتها.
“لم أشتر لك شيئا هذه السنة”، قال هو في آخر اليوم، فلم أجد ردا. نظرت لصورتنا على انستغرام وهو يحتضنني، يده على كتفي كأنها “بردي بالروح”، كلماته التي أتذكرها تماما في ذلك اليوم طعمها “اقهوة بالهيل”، لو أنه يعرف أن الدنيا كلها خلف باب بيته الذي يأويني في طمأنينته، كلها في مكتبه الذي فرشه لي حبا وتنازلا عن الذوق الذي كان يريد، كلها تحت لمسة يده التي يضعها على كتفي، لما وجد حاجة أن يشتري هدايا أبدا العمر كله. ثلاثون سنة يا مهجتي، أنا وأنت، “نسمر في بحر الشوق”، فأي وجهة ستأخذني في الثلاثين سنة القادمة؟