اغتصاب

دار قبل أيام حوار على إحدى مجموعات «الواتس آب» التي أنتمي لعضويتها حول معضلة زواج الصغيرات، حيث نفى أحد المتدينين السنة في «الجروب» وجود إجماع على هذه الممارسة التي أكد اقتصارها «عند بعض الحنابلة والجعفرية»، وأنه لا إجماع على ذلك سوى «بعقول المتطرفين من المسلمين سواء كانوا أصوليين أو متعلمنين»، ليردف قائلاً: «هناك من أبناء جلدتنا تعجبه الإساءة لتراثنا ويحب أن يؤكد على صحتها (أي الإساءة حسب فهمي)». أتى هذا التصريح رداً على تأكيدي لوجود إجماع كبير على زواج الصغيرات في كل المذاهب، وأن هذه معضلة تحتاج الانتباه، وأن «محاولة التملص من مواجهة هذه الإشكالية هي محاولة فقيرة، والأخطر أنها تهدم الطفولة وتغتالها».
وهكذا أتى الرد المتوقع، بل وتردد لاحقاً إبان الحوار القصير حين كرر محاوري قائلاً: «ويجب أن نفرق ما بين ديننا السمح وحقيقته، والمتدينين المتطرفين منهم الذين ينقلون بعض العلوم منه، والمتعلمنين الفرحين للأبد بشتم ديننا وتراثنا». فعوضاً عن مواجهة الكارثة الملحة، التي ما كانت لتطفو على سطح النقاش لولا وجودها الحقيقي في حيواتنا، تحول الحوار إلى «أبناء الجلدة المسيئون» و»المتعلمنين الفرحين بشتم الدين والتراث»، في ذات المحاولة الكلاسيكية لتغيير مجرى الحوار من تحليل الموضوع المُلِح لتفنيد شخص المتحدث أو الناقد، وليتحول الانتباه إلى شخصيته وليتناول النقد نواياه وأغراضه، وليختلط الحابل بالنابل فيضيع الموضوع في «الطوشة» العارمة.
هناك كذلك الحجة الكلاسيكية الأخرى، ألا وهي أن كل إشكالية تشريعية، مع ملاحظة أن التشريع اجتهاد بشري لفحوى نصوص مقدسة مر على أماكن وأزمان تغير بتغيرها، هي إشكالية «الآخر» المتطرف وليس الدين الحقيقي. بالطبع، كل فئة مهما بلغ تطرفها تدعي أنها حاضنة الدين الحقيقي، وكل أصحاب قراءة مهما بلغ تشددهم يدعون أنهم أصحاب المنظور المعتدل العادل. ولأنه لا وجود لمؤسسة تمثل الإسلام السني بكله ولا الإسلام الشيعي بجله، ولا غيرهم من الطوائف برمتها، وهذا ما يميز الدين الإسلامي في الواقع في جوانب كثيرة، فإنه وحتى اليوم لا يستطيع شخص أو مؤسسة تحديد بنية واضحة ومحددة للإسلام الحقيقي. ففي النهاية، التشريع الديني هو قراءات وتفسيرات مختلفة لنصوصه المقدسة، وبالتالي هي تختلف باختلاف هويات القراء وبتبيان أزمنتهم وأماكنهم، وهذا تحديداً وببساطة شديدة ما خلق الطوائف المتعددة والتوجهات المتباينة.
وهنا يبرز السؤال، إذا كان كل جسم من الدين يحتوي على رأي استشكالي أو محرج يصبح جسماً فاسداً لا يمثل الدين الحقيقي، فما الذي يمثل الدين الحقيقي؟ وأي طريق أو توجه يخلو تماماً من الإشكاليات الفقهية والآرائية؟ لا يمكن طبعاً أن تخلو مدرسة من هذه الإشكاليات لسبب بسيط؛ أن القائم على هذه المدارس بشر يخطئون أكثر مما يصيبون، وأن الزمان يبدل الأفكار، والمكان يغير المنظور، وبالتالي سيستمر الرأي في التغير مع ثبات النصوص الأصلية، مما يقود إلى استنتاج بأنه من الواجب أن يسعى الفقهاء لتغيير التفسيرات والقراءات لمواكبة العصر وحداثته وحقوقيته وتقدميته، لا أن يصروا على أن نفي الاستشكالية من «الدين الصحيح»، دون أن يخبرونا أين هو جسم الدين الصحيح وما دليلهم على صحته ولمَ نأخذ بتقييمهم هم دون غيرهم.
زواج الصغيرات مشكلة عميقة، مؤرخة وممثلة في الروايات والحكايات، يأخذ بها مجتهدون ومشايخ لأنها موجودة ومقننة في كتب التراث. إلى أن يجتمع الرأي على فكرة تاريخية الكثير من التشريعات، وبالتالي ضرورة تغييرها وتطوير فهمها الحالي، وإلى أن يجتمع ذات الرأي على أنه مع الاعتراف بالتاريخية والالتزام بالتطوير، كل هذا يجب أن يترك في مكانه في الساحات البحثية والممرات الثقافية لصالح الالتزام بالقوانين المدنية للدول الحديثة التي نحيا فيها والمنصاعة للتشريعات الحقوقية المتفق عليها عالمياً. إلى أن يحدث كل ذلك، سيظل الكثير من الآباء الشرهين للمال أو المتورطين بكثيرة العيال وقلة المال، بياعين لصغيراتهم لرجال كبار بصيغة الزواج، وسيظل الكثير من المرضى النفسيين تواقين لأجساد الصغيرات يعيثون فيها فساداً ليعطبوا أرواحها وقلوبها. لا بد من إيقاف هذه الجريمة بحق الطفولة في التو واللحظة، ولا بد للمنظومة الدينية أن تساعد هذا الجهد، لا أن تكتفي بتبرئة نفسها منها. لا أحد بريء طالما هناك من يقول بهذه الممارسة ويبررها ويشرعها، وطالما هناك من يسكت عنها أو يخففها بحجج قميئة، كاستطاعة الفتاة وتحمل جسدها، وطالما لم يتحقق الإجماع بمحاربة وإيقاف هذه الممارسة. لا أحد بريء طالما هناك ولو صغيرة واحدة تغتصب في فراش معنون بالزواج.