مقال اليوم هو قراءة في بعض الطرح العام لقراء هذه الزاوية. في العموم، لا أميل إلى مجادلة القراء ولا أحبذ تداول الفكرة ذهابا وإيابا، أشعر أن في ذلك تعديا على مساحتهم، فالكاتب ما إن يدلي بما لديه حتى يخرج النص عن نطاق إرادته والمعنى المنطوى عليه في سريرته، ليصبح ملكا للقراء، يتداولونه ويمحصونه ويتفكرون في معانيه دون تدخل مستمر من الكاتب الذي قد يغدو لاعبا أوكروباتيا دفاعا عن آرائه وتفنيدا لها. بالطبع، قد يكون التبادل الحواري هذا محمودا أحيانا، إلا أن العمود الإسبوعي -في أحايين- يصبح مرهقا للكاتب ومزعجا متعديا للقارئ الذي بعد أن وصلته الفكرة يبتغي مساحته التي يتفكر من خلالها والتي يفترض أن تخلو من تدخل الكاتب المزعج المستمر.
لذا، ارتأيت اليوم أن أتناول بعض المنهجيات العامة، لا الأفكار المحددة ولا شخوص كاتبيها بالطبع، ببعض التعليقات نزولا عند رغبة القراء الهاتفين لي بالتدخل، وكذلك تفلسفا حول طبيعة عمل الكاتب ونوعية علاقته بمواضيعه وقرائه. بكل تأكيد، يأتي اختيار موضوع المقال ليس استثارة لخلاف ولا نكاية في طرف، مقالاتي تحضرني من الفكرة الدائرة في رأسي في حينها، أو من الموضوع المستثار في محيطي وقتها. هذا، وتكرار بعض المواضيع في العمود الثابت أمر طبيعي، فلكل كاتب توجه أيديويولجي وقضايا محددة يتناولها دائما من زوايا مختلفة وبمقاربات متعددة. التكرار والمنهجية الثابتة طبيعيان تماما ومتوقعان، ولربما يكونا مستحسنين من الكتّاب الذين يحملون هموما أيديولوجية محددة أوقضايا اجتماعية أو إنسانية أو فكرية معينة.
من طريف ما يصلني من خلال تعليقات القراء الكريمة هو تذكيري بكل المواضيع التي لم أتحدث عنها حين الحديث عن موضوع محدد، وكأنني لأناقش قضية معينة، فلنقل قضية الهوية الجنسية التي كانت موضوع المقال الماضي، عليّ أن أناقش حقوق كل بقية البشر؛ الظلم الذي يتعرض له الجنوب أمريكيين.. الاضطهاد الذي يعانيه مسلمو شرق آسيا.. قضايا الفساد السياسي الشرق أوسطي.. ارتفاع سعر البصل والطماطم إبان الجائحة.. وماذا حدث للطائرة الماليزية المفقودة؟ كلما اخترت موضوعا غضب بعض المعلقين من أنه لا يتناول العشرة بليون موضوع الموجودة بين السبعة مليار إنسان على سطح الأرض، وأنا ليس لدي سوى يدين اثنتين وعقل واحد «على قدي» بالكاد يفك خط المعضلات والقضايا الإنسانية. فماذا أفعل؟
الأكثر طرافة و«خباثة»، وأنا هنا أعنيها بالمعنى الفكاهي، هو تذكيري بمواضيع يفترض أن أتكلم عنها في حين يعلم المعلقون أنني لا أستطيع ذلك، بحكم المنطقة التي أعيش فيها والقوانين التي أحتكم إليها وحتى المساحة الصحافية المتاحة لي لأكتب فيها. نعم، أكتبُ في كل المواضيع الحقوقية القادرة على الكتابة عنها، أتخطى الخطوط الحمر، و«أدفش» الحدود تحديا، إلا أن لهذه المقدرة حدودا، يحدها التزامي بقوانين بلدي، محافظتي، ولو في الحدود الدنيا، على سلامتي وأمني وأبنائي وعائلتي، واحترامي لقواعد وقوانين المساحة التي تفضلت «القدس العربي» عليّ بها. ليس انتصارا فكريا أن أسأل أحدهم سؤالا لا يحتمل تحت الظروف الراهنة سوى إجابة واحدة، ليس تناظرا عادلا أن أستعلي على أحدهم بالإشارة إلى قضايا وأسماء وأنظمة سياسية، وأنا أعلم أنه ليس للكاتب الفرصة للحديث عنها.. إما بحكم القوانين التي يعيش تحتها، أو بحكم الحفاظ على سلامته، أو بحكم المسموح في المساحة الصحافية المتاحة له. السؤال الذي لا يحتمل سوى إجابة واحدة، وأي مخالف لها سيعرض المجيب لخطر أو تهديد، هو سؤال – مع كل الاحترام لشخص السائل – لا شهامة له ولا مروءة في طرحه.
بعض الردود السريعة تجاه بعض التعليقات الكريمة المتكررة: ما قد يبدو هامشيا للقارئ قد يكون مفصليا عندي، وكل ما أملكه عموما هو أن أقدم المادة، لكنني لا أملك دفعها قسرا أمام عيون القراء، الاختيار هو حقهم، وإهمال المقال مكفول لهم. ليس كل ما أكتب استشفافا للغرب، أنا ابنة الشرق، عشت فيه أكثر مما عشت في الغرب، فليس كل من يكتب شيئا مخالفا للسائد العربي الإسلامي المحافظ هو شخص مغسول دماغه أو متآمر جاسوس، فأحيانا وببساطة، له رأي مخالف ونظرة مختلفة، هكذا فقط، من دون أي نظريات تآمرية عميقة. هذا، وليس كل ما أكتب عنه أتفق معه أو أرفضه، فبعض المواضيع، وإن طرحتها حزما من وجهة نظر معينة، أقولها لأستمع لوجهات النظر حولها فأوسع مدارك فهمي وأستفيد. المسألة ليست صراعا مستمرا بين الكاتب والقراء، وممكن أن تكون تعاونا فكريا خفيا وإن تجلى في صراعات تناظرية تحاورية جميلة كالتي تتم على صفحات «القدس العربي»، هكذا يفترض أن نتعامل مع تبايننا واختلاف وجهات نظرنا إن أردنا أن نأخذ خطوة للأمام.
ولربما من أغرب ما يصل من تعليقات أحيانا هي تلك التي تحاول وضعي ككاتبة في موضع مؤلم لقسري على تغيير رأيي. مثلا، إذا كتبت معارضة لعقوبة الإعدام يقسو البعض بفرض صورة موجعة عليّ: أن ماذا لو كان الحكم صادرا بحق من آذى أبناءك؟ وهل أم مكلومة قادرة على أن تعطي رأيا محايدا عقلانيا؟ هل من الحكمة أن يُفوض الإنسان الجريح المتألم لأن يطلق هو حكمه على المخطئ؟ وهل هو انتصار أن تقسر المختلف معك على الرضوخ لرأيك فتوجعه من خلال أقوى نقاط ضعفه؟ أو مثلا… إذا كتبت حول تعدد الهوية الجنسية، يسأل البعض: هل تقبلين لو كان لشريكك علاقة مثلية؟ لتأخذني طرافة وغرابة السؤال إلى الإجابة المنطقية البينة أن الخيانة خيانة أيا كان طرفها، لا أقبلها من شريكي مع أي طرف. وأي علاقة لهذا السؤال بفلسفة الهوية الجسدية والجنسية عند الإنسان؟ أنا وزوجي مقياس رختر لذلك؟
الآن وقد علقت ورددت، أجد طعم التعليق والرد أسوأ مما توقعت، فالرد دفاع في حيز لا يتطلبه، الفكرة مطروحة، تفنيدها ومناقشتها والاعتراض عليها بل وحتى الاستهزاء بها ورفضها وتدميرها… كلها حقوق خالصة للقراء، لماذا يجب أن أدخل بينهم وبين كل فكرة أكتبها؟ لماذا أتطاول على حقهم ومساحتهم بالدفاع والشد والجذب؟ وهل أنا أصلا متهمة حتى أرد وأدافع وأناظر؟ أنا حيالله كاتبة مغمورة، تطرح فكرة، وتنتظر ما يتأتى منها لتفكر أكثر وتعقل أكثر، ولربما لتتثبت أو تغير رأيها. أفكاري ليست مقدسة، والموضوع ليس شخصيا. وعليه، إذا ثبت خطأ منظوري، فهذا لن يشكل معضلة لي، بل هي طبيعة التواصل الفكري وكذلك التقدم في العمر، كلما كبرت سنة أرضية تغيرت أفكاري سنة ضوئية.
يبقى أن أقول إنني أحبذ بطبيعتي الهدوء والابتعاد عن الاتهامات وحسن التخاطب وتجنب قراءة نيّات الآخر. في عرفي، القسوة لا نتاج مفيدا لها، إلا أن كل ذلك مجرد تقييم ذاتي، فما قد يبدو قراءة للنوايا عندي على سبيل المثال قد يبدو تحليلا موضوعيا عند غيري. وعليه، فإن كل ما لا أستحسنه من أساليب التعليق والحوار يبقى حقا مكفولا للقارئ المعلق يفترض عليّ، بحكم احتلالي للمساحة «القدسية العربية» أسبوعيا، أن أقيمها وأحترمها وأتحملها إلى أبعد الحدود.
أحبكم، رواد هذه الزاوية، من أكثركم شفقة ورفقا إلى أبعدكم شدة وأقساكم نقدا، أحترم حقوقكم وأقدس مساحتكم المتروكة لكم. أتابع التعليقات قدر الممكن والمستطاع، أستفيد وأتعلم، فشكرا لكم، ومثلما نقول في منطقتنا الخليجية «اعذرونا على القصور».