تمارس التيارات “المدنية” بتوجهاتها التحررية الليبرالية التقدمية التنويرية كافة، مع التحفظ عن استحقاق مثل هذه التسميات أساساً، رفاهية ليست من حقها ولا تدخل ضمن نطاق قدراتها أساساً. ففي غياب حزين عن الواقع وتغييب مريع للمشاكل الحقيقية، تتجادل هذه التيارات فيما بينها جدلاً حزيناً يغرس المزيد من السهام المسمومة في الجسد المدني المنتهك، جدلاً يعزل هذه التيارات أكثر فأكثر عن الشارع وواقعه، بل وعن الخطر المحيق بهذه التيارات بحد ذاتها، فترتسم صورة سيريالية لمجموعة من البشر تتفسخ الأرض من تحت أقدامهم بزلزال مريع بينما هم يتجادلون حول درجة زرقة السماء فوق رؤوسهم غير قادرين على تسديد نظراتهم ولو مرةً أسفل أقدامهم.
وهذه التيارات تمثل، في رأيي، أغلبية مجتمعية، ولكنها أغلبية صامتة، تخشى أن تقول “الوطن أولاً” فتكفر بدين تقدسه وتبجله، تخشى الخروج عن موروثات بالية فتتهم بالتغريب عن عادات وتقاليد تحترمها وترعاها، أغلبية مجتمعية معتدلة، منفتحة على الآخر، بحكم السفر الدائم والاختلاط بغير الكويتيين الذين يشكلون النسبة الكبرى في المجتمع، متعايشة الخطاب، متسامحة الهوى، لكنها أغلبية مختطفة، يتسلط عليها من جهة خطاب ديني متطرف، ومن جهة خطاب قبلي “متعنصر”، ومن جهة ثالثة قيادات منعزلة منفصلة عن واقعها، تتنابز في أفكار لا يتحدث بها غيرها.
أشاهد أحياناً في أحلام اليقظة حافلة كبيرة تنطلق على الطريق محملة بالدشاديش المبخرة في رحلة اسمها “جولة مع الواقع”، أولى محطاتها تكون في مجلس الأمة، فتنظر في الخطاب الحقيقي الدائر في موقع صنع القرار، خطاب قبيلتي وعائلتك، سنيّتي وشيعيتك، أصالتي وضحالتك، أموالي وفقرك، خطاب جهنمي يؤلب الشعوب ويحرق القلوب ويبث الأحقاد لابد أن يوضع في منظور خطاب الدشاديش المبخرة المسكين. تتحرك الحافلة بعدها فتصل بهم إلى تيماء، إلى منطقة الإسطبلات، إلى الصليبية، إلى الشوارع المقفرة والعشش الهزيلة، إلى الأطفال يحتمون من الفقر بغبار الشوارع، إلى النساء يقاومن الجوع بلهيب قوارع الطرق، إلى حيث توقف الزمان، وتطاول الحرمان حتى طال الوجود بحد ذاته، فأصبحت أعز الأمنيات ورقة تقول إنك مولود، إنك موجود، إنك في يوم ستموت.
ولا أنسب بعدها من توقف هذه الحافلة عند دور الرعاية والمستشفيات الحكومية التي تضم الأطفال مجهولي الأبوين، أطفالاً لم يختبروا في يوم ضمة صدر، قبلة جبين، لا تحتضنهم سوى شراشف أسرّتهم، لا تقبلهم سوى مخدات باردة كئيبة، أطفالاً ينتظرون، متعلقين بقرار يعيد إليهم شيئاً من طفولتهم المذبوحة. ولن تحرم الشوارع هذه الحافلة شيئاً من الترفيه كذلك، فالأسى يتجول في الطرقات، مرتدياً “بدلة” صفراء، وكأنها علامة الحكم بالنفي خارج الإنسانية، عمالة تباع وتشترى فتدور الشوارع رافعة أيادي مقشفة بالتحية تنتظر فتات الأموال تعوضها رواتب هزيلة لا تدفع لهم أساساً.
وبلا شك، ستتنابز المجموعة وهي تتجول في حافلتها المكيفة، “نحن لسنا أنتم”، و”نحن أفضل منكم”، “جشعين… متسلطين… متخلفين… جهلاء… أبوي أحسن من أبوك… أنت ما تحبني… لا أنت ما تحبني… ليش ما عزمتني؟… لأنك أنت ما عزمتني” ويستمر “النقار” والأرض تتزلزل أسفل الحافلة وصولاً إلى جليب الشيوخ، حيث الشوارع، ليست شوارع، بل حفراً مستنقعية خبيثة الرائحة، وحيث الأسى والألم والفقر “يرتطمون” بالحافلة من أجنابها وعليائها، فيكثفون خبث الرائحة وسواد المنظر، وحيث الإنقاذ الوحيد، يأتي من الجماعات الدينية المتطرفة، تلك التي لا تتوانى عن مد يد العون والتواصل إلى الشارع، بشعور من واجب أحياناً وبتخطيط ممنهج أحايين، فيزدادوا قرباً وتأثيراً وتبتعد الحافلة تغييباً وانفصالاً وانفصاماً.
لا، لن أقبل بمقولة ليكن النقد داخلياً، ولا تنشروا الغسيل، فالغسيل تنشره الأيادي المبخرة بحد ذاتها، والعالم الإلكتروني فتح الباب حتى يشاهد الجميع العملية من أولها، من بداية “صوبنة” الملابس، مروراً بعصرها ثم نشرها. هذا، وأنا أعتقد أن النقد القاسي والحساب العلني هما الدواء الناجع وقد يكون الوحيد للمجاميع المدنية الغائبة المغيبة، تلك التي قد لا ينقذها سوى جيل جديد يبث الكثير من الأمل في الروح. جيل يحاول الآن جاهداً تغيير الخطاب، جيل أتمنى ألا أراه ينزلق “صعوداً” إلى الحافة المشؤومة، فتلك سيبتلعها الزلزال قريباً إن لم تفق وتترك حافلتها هابطة إلى الشارع… حيث منه أتت وإليه يجب أن تعود.