تعاني النساء في أنحاء العالم، المتقدم منه والمتأخر، من ضياع أصواتهن وسط اختلافاتهن وخلافاتهن، ذلك أن القضية النسوية ليست كغيرها من القضايا الحقوقية الإنسانية، يصعب جداً توحيد توجهها أو تحديد مطالبها أو حتى الاتفاق على مبادئها الرئيسية. ففي حين أن بقية القضايا الحقوقية استطاعت إيجاد صوت وفكرة للتعبير عنها، تعذر ذلك بالنسبة للقضية النسوية بسبب التباين الكبير في ظروف الحياة بين النساء إلى جانب التباين الكبير في متطلباتهن، وتطلعاتهن وقيمهن الأخلاقية، المجتمعية والدينية. ولأن كل هذه القيم تدخل في تحديد شكل ومسار الحراك النسوي بالإضافة إلى أهدافه وسلوكيات العمل به، أصبح موضوع توحيد الحراك النسوي، ولو بحد أدنى، هدفاً صعب المنال.
تؤكد سيمون دي بوفوار على صعوبة ذكر كلمة «نحن» تعبيراً عن النساء، ذلك أنه في وعي النساء، ولربما في اللاوعي كذلك، «نحن» تعبر عن الأسرة أو القبيلة أو الطائفة أو الانتماء العرقي أو الديني أكثر بكثير من الانتماء للجنس الأنثوي. وحتى حين تعبر كلمة «نحن» عن النساء، فإنها في الغالب لن تعبر عن كل النساء في وعي المتحدثة، لربما لن تشمل العاملة عندها في المنزل أو النساء الأقل أو الأعلى طبقة اقتصادية أو هؤلاء المنتميات لدين أو طائفة مختلفين. مشكلة الحراك النسوي تكمن في المؤسسات الذكورية الراسخة في حيوات النساء وفي وعيهن، وهي مؤسسات تمعن في دق أسافين الفرقة بينهن، مصعبة عليهن الحراك ومعرقلة أمامهن كل طرائق الوصول.
كذلك تقول ميري إيمي هيلي لوكس، إنه «على الرغم من أن التهديد عامة ما يكون خارجياً، موحداً ومتجذر الشر، فإن النخبة المتعلمة والنساء هن عادة نقاط الضعف في نظام الدفاع، كما أنهن الحليفات الاحتماليات للعدو الخارجي. هذا بدوره يبرر انغلاق الهوية على ذاتها، كما ولو أنها قلعة، وحبس النساء بداخلها». تشير لوكس إلى أن «التبعات العملية لهذا الموقف الأيديولوجي يشكل حيوات النساء تماماً كما يشكل رد فعلهن تجاه الأصوليين». وتشير لوكس إلى تأثر حيوات النساء بهذا الموقف على أربعة مستويات؛ فعلى المستوى السياسي تخشى النساء الاتهام بالخيانة ذلك أنهن في تحديهن للهوية يتحدين كل شيء آخر كذلك، على المستوى الثقافي يتصادمن وفكرة أن التقاليد معرَّفة بثباتها وعدم تغيرها، على المستوى الديني تحكر معظم التفسيرات القرآنية النساء في نموذج مجتمعي متشابه جداً والنموذج الذي كان منذ أربعة عشر قرنا ونيف، وأخيراً على المستوى القانوني الذي يؤكد على قوانين الأحوال الشخصية كمحددات للهوية. (من «مقال الرمز التمييزي للهوية الإسلامية» للكاتبة المذكورة).
من هنا نجد أن المجتمع لا يستخدم فقط فروقاتنا الاجتماعية والطبقية والأيديولوجية كأسافين فرقة بيننا، إنما هو يستخدم مخاوفنا نحن بذاتنا كنساء والضغوط التقاليدية والدينية وحتى القانونية لفرض أشكال هوياتية قسرية علينا، هويات كثيراً ما نكون مغتربات عنها وضائعات في مساحتها. أضيف إلى ذلك ما كنت قد ذكرته في المقال السابق من قسوتنا النسائية بعضنا تجاه بعض، من نفورنا نحن بذاتنا كنساء من اختلافاتنا، ومن عدم قدرتنا على تخطي هذه الاختلافات لهدف يجمعنا وفكرة رئيسية نلتف حولها مهما فرقتنا منظوراتنا الحياتية. حراك مكافحة التمييز العرقي واللوني، الحراكات العمالية، وحراكات الأقليات في معظمها كلها حركات حقوقية وإنسانية قادرة على تحديد الهدف والاتفاق إلى حد كبير على المسار رغم الاختلافات الشاسعة أيديولوجياً اجتماعياً وسياسياً بين القائمين عليها، إلا أن هذا ليس هو حظ الحراك النسوي.
لا تتوافر فرصة تخطي الاختلافات هذه للنساء، فالمححدات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والعرقية، والدينية والأيديولوجية، كلها تدخل ضمن تكويننا الجندري «كنساء»، الذي يضاف إلى تكويننا الجنسي «كإناث». هنا تصبح المعضلة ضخمة، وتصبح العقبات لا حصر لها ولا عد، وتصبح المهمة مستحيلة، ولكنها ليست مستحيلة على النساء رغم كل ما ذكرت آنفاً، هذه الكائنات البشرية المميزة التي تحملت التدهور من كونها رموزاً إلهية إلى أقصى درجات الانحدار المجتمعي والأيديولوجي، والتي لا تزال تكافح وتعافر وتشق الطريق بلا كلل أو يأس. هي المرأة، هذه الكينونة الاجتماعية التي هي أقل فساداً، أقل عنفاً، أكثر تنظيماً، أرحب صدراً، أقدر تعاطفاً وذكاء اجتماعياً، وأقوى قيادة، هي هذه الكينونة القادرة على تنفيذ المهمة المستحيلة التي ستحتاج لتضافر كل الجهود والترفع عن كل الاختلافات.
يبقى من المهم التذكير بأن كل «الأعداء» الخارجين في جهة و»أعداء» الداخل في جهة أخرى. من المهم أن ننتبه للعقلية الذكورية المتلبسة الجسد الأنثوي، وأن نحاول مقاومة العدوى بها ألا تصيبنا فتقلبنا على أنفسنا وبنات جنسنا. من المهم أن نبقى رحيمات بعضنا لبعض، وأن نتقبل خلافاتنا واختلافاتنا. من المهم ألا يقيم بعضنا بعضاً بناء على العوامل الاجتماعية والاقتصادية والأيديولوجية والسياسية الذكورية التقليدية، ذلك أننا لا ننتمي إلى هذه العوامل، ولم نشارك في صنعها، وهي لا تمت بصورتها الحالية لتركيبتنا الأخلاقية والنفسية بصلة. لننتبه ألا نختلف كنساء على أفكار ومؤسسات صنعها الرجال، وليغفر بعضنا لبعض، فنحن نحتاج أن نشبك كل أيادينا حتى نقطع هذا النهر البارد الموحش الكبير.