لقد دهورت السياسة وأصحابها مجتمعاتَنا الخليجية كثيراً، حتى ما يبدو من هذه المجتمعات لامعاً مصقولاً متزيناً بأموال وحريات لا تعبر عنه ولا تعكس حقيقته.
لقد تدنى سقف الحريات بشكل فاحش، فالحريات الحقيقية هي حريات جمعية، لا تتلخص في حرية مظهر أو حرية سلوك فقط، هي تذهب لحرية رأي وتعبير وتفاعل سياسيين كذلك، وبلا هذه الحرية الأخيرة تحديداً، ومهما بلغ مدى الأوليتين منها، لن يكون هناك ممارسة حرياتية حقيقية ولا مجتمع مدني فاعل قائم.
في الكويت الحريات السياسية حاربت الحريات الشخصية وعند جاراتها الخليجيات الحريات الشخصية كانت الثمن المقبوض للتخلي عن الحريات السياسية. هو قدرنا المحتوم في هذه البقعة الملتهبة من العالم، أن نختار بين السيئ والأسوأ، وأن نعتقد أن لكل استقرار مهما صغر شأنه ثمن لابد أن ندفعه مهما كبر وتعاظم قدره.
لا نستحق نحن أبداً أن نحصل على “الكيكة” وأن نأكلها كذلك كما يقول المثل الأميركي.
علينا أن نختار بين الحريات السياسية التي ستغتال حرياتنا الشخصية وبين حرياتنا الشخصية التي لن تتحقق سوى بالتخلي عن الحريات السياسية وعن المنطق المدني الحديث لحكم الشعب لنفسه، لتحمينا حكومات ديكتاتورية تنويرية من مغتالي الحريات الشخصية، الذين لا يصلون سوى من باب الحريات السياسية وعن طريق الديمقراطية العربية، التي لا تولد إلا الديكتاتورية.
متاهة لا أول لها ولا آخر، “مصيدة 22” تضعك في الموقف ونقيضه في آن، تذيبك في دائرة الدجاجة والبيضة الغرائبية غير ذات المخرج مطلقاً.
إلا أن الوضع في المنطقة تصاعد والأذى تفاقم لتظهر له أعراض سوسيولوجية نفسية خطرة.
لنبدأ بالكويت مثالاً: فقد وَلَّدَت الحريات السياسية، والتي سأبقى أختارها أنا شخصياً ودائماً قبل الحريات الشخصية إذا ما كنت مجبرة على الاختيار، خطاباً عنيفاً بغيضاً، أفرغ العمل السياسي من محتواه، وسلوكياته من أدبياته.
لقد ترسخت اليوم صورة البطل البذيء، هذا الذي يشتم ويعنِّف ويصرخ ويستخدم تلميحات ومسميات ساخرة سخيفة يضرب بها أعداءه في صورة تبدو أقرب للطفولة المشردة عنها للسياسة المنظمة الجادة.
آمَن الكثير من الشباب بهذا الأسلوب، بل وتبنوه، وانخفض مستوى الحوار إلى حد مريع، وتغيرت النبرة وساء السلوك وارتفعت نسبة العنف اللفظي والجسدي، وبالطبع ترافقاً مع كل ذلك، ارتفع الصوت العنصري واستبدت الكراهيات وساد النفور بين سكان البقعة الواحدة.
يستمر كل ذلك بعناد إلى أن تقع الطامة الدائمُ توخي وقوعها في عالم السياسة فينقلب الحال إلى حال، ويتحول الإصلاحي الشرس، الذي طالما برر الوقاحة بأنها رد فعل يزن الفساد المحيط به، ليأخذ مكانه في طابور “الأعداء”.
عندها يسقط في يد المريدين، هؤلاء الذين دوماً ما ينتظرون المخلص ليعظموه وينفخون في “أناه” حد إشعاره أنه إله يعبَد، غاضين الطرف عن خبث اللعبة السياسية وعن الدور المناط بهم كمحاسبين مراقبين لا “عاشقين” عابدين لشخص مهما بلغ سوء أدائه، مفوتين المبدأ الواقعي لأنه لا يمكن أن ينفصل الأسلوب والسلوك عن الهدف والقضية، لا يمكن أن تدفع عن صالح بأسلوب فاسد أبداً.
لقد ضحينا في الكويت بالحريات الشخصية من أجل ما تمنيناه ممارسة ومشاركة سياسية رصينة، وعلى الرغم من ارتفاع نسبة الحريات السياسية عندنا ومن تحقق وجود ديمقراطي نسبي في محيطنا السياسي، إلا أن الممارسة، ومن كل الأطراف، هي من سيئ إلى أسوأ ونتاجها من سيئ إلى أسوأ، فلا طلنا عنب الشام ولا بلح اليمن.
فهل كان حظ الدول المجاورة الأخرى التي أسكتت الأصوات المعارضة بصلاحها وطلاحها أوفر؟ تحكي وسائل التواصل قصة عنف تنفيسية تنافس العنف الكويتي الداخلي قوة وخطورة.
من الملاحظ أن توتر وضعية الحريات السياسية في بعض الدول الخليجية انعكس عنفاً على خطاب أهلها الآخذين بالدفاع عن دولهم بقسوة تصل حد الشتم والإساءة من البعض إلى درجة توحي بصراع نفسي داخلي أكثر منه انتمائي خارجي.
التوتر الإلكتروني، رغم أن له أسباب ودوافع مختلفة وأحياناً كثيرة تحركه الأموال والعلاقات التي هي خارج نطاق السيطرة الفردية الشخصية، إلا أنه يخبر عن قصة تناقض يولد عنفاً وشعوراً بعدم الرضا يولد التوق لإثبات عكسه، فترى البعض يطيح بالمختلِف شتماً لإثبات صلاحه، يمطر الناقد ببذاءاته ليبرهن عن تقى محيطه، فكيف يستقيم الحال؟
بالطبع، الحياة بين خيارين سيئ وأسوأ له تداعيات عدة خطرة، وما المشاهد السلوكية التي أناقشها في هذا المقال سوى عارض من أعراض للمرض، أما التداعيات والنتائج فوخامتها تحتاج لمساحة غير المساحة والبوح بها لأمان غير الأمان.
بالعموم، الأشخاص المستقرين المستريحين مع أنفسهم ومحيطهم والذين يحيون رضا حقيقي بلا أقنعة وبلا تظاهر وبلا مخاوف، عادة ما يكونون أقل عنفاً وأكثر استقراراً وهدوءاً سلوكياً وهذا ما لا نراه لا في الكويت بحرياتها السياسية ولا عند جيرانها بحرياتهم الشخصية.
الجو محتقن، والغضب مستبد، والمبالغة بالدفاع عن الدولة (التي يختلف مفهومها عن الوطن) تثبت حقيقة الاتهام. فإذا كان رد الفعل عنيفاً تجاه النقد، فاعلم أن في هذا النقد من الصحة الشيئ الكثير.
قبل أيام تعرضتُ لموقف آلمني بشدة. طالبٌ في عمر أصغر أبنائي تجرأ سخرية وهو يقف أمامي في الصف الجامعي. حين حيدت غضبي وحاولت أن أزن الوضع، وجدت أن الذنب ليس ذنبه مباشرة، ولربما ليس ذنبه مطلقاً، فهو ضحية محيط قاس و”قدوات” تتخذ البذاءة منهجية و”أبطال” يقدمون الرخص والتطاول على أنهما شجاعة وجرأة في الحق.
من هم الظاهرون على وسائل التواصل؟ من الذين يحثون الخطى تجاه الشهرة؟ من الذين يقودون الرأي العام وبصوت عال اليوم؟ لابد لنا أن نراجع النتائج الفادحة كما وأن نراجع أسبابها الكارثية.
الديكتاتورية الدينية (وهي سياسية في النهاية) كما الديكتاتورية السياسية (وهي ذات طابع ديني مؤسسي في النهاية)، كلتاهما لها نتائج وخيمة على سيكولوجية الشعوب وعلى تعاملها مع بعضها البعض، ومع الغرباء عنها، ومع ناقديها.
لربما تعتقد حكوماتنا “الحديثة” التي لا تزال تعيش عصر الحرب الباردة أن هذه أساليب ناجعة في السيطرة، تلهي الشعب بصراعاته وتخلي الساحة لمصالحهم، إلا أن ما لا تدركه هذه الحكومات، أو لربما تدركه ولا تهتم، أن النهاية ستكون وخيمة على الجميع، من أكبرنا إلى أصغرنا ومن أقوانا إلى أضعفنا، فحتى حسابات سويسرا وبيوت الريفييرا، حين يقع المحتوم، بعيد الشر، لن تغني عن أوطان أضعناها برعونتنا، بسكوتنا، وبسقوطنا المستكين في المصيدة.