مراهقون يتصفحون موقع فيسبوك
يوم القيامة
نقل حساب wonderfulphotosarabia على موقع انستغرام صورة لشعار موقع فيسبوك مرفقة بتعليق مخيف مؤثر: “العطل الذي أصاب فيسبوك قبل أيام، يطرح سؤالا صادما: ماذا لو اختفى للأبد؟! فابتلع العدم ذكريات موثقة بالحروف والصور، ورسائل عشق، وصداقات نمت على صفحاته، ومصادر رزق، وجهود عظيمة، ومقالات وآراء! الحقيقة المفزعة أن الجزء الأكبر من حياتنا يدور اليوم داخل هذه الفقاعة الزرقاء. فإذا فقأت، أصبح سراب!”.
يتكرر ذات السؤال ويدور بصيغ مختلفة: ماذا لو اختفت مواقع وسائل التواصل؟ ماذا سيكون مصير “مذكراتنا” المرئية، المسموعة والمكتوبة، والتي زرعناها توقا وكبرياء وضعفا وأنانية وحبا للظهور ومحاولة للتواصل، شوقا للتفاعل الإنساني وخوفا من الوحدة والانعزال، رغبة في فهم أنفسنا وفهم جنسنا البشري؟ ماذا سيكون مصير كل تأريخاتنا الإلكترونية التي سلمنا “واحداتها وأصفارها” زمام توثيق حيواتنا وإثبات وجودنا دون أن نفكر في أن أدوات التأريخ هذه كلها مجرد برامج رقمية، قابلة جدا للفشل والسقوط وبالتأكيد الاختفاء؟
لا أعرف لماذا تجلت فكرة الموت واضحة صارخة متوازية تماما مع فكرة اختفاء مواقع التواصل أو عالم الإنترنت بأكمله؛ ففي حال اختفاء عالم الإنترنت بكل مواقع تواصله وصفحاته الإلكترونية، سيغيب عن حيواتنا عدد هائل من الناس الذين، في الأعم الأغلب، لن نراهم أو نسمع عنهم أو منهم في يوم بعد ذلك؛ أوليس هذا هو الموت؟ أن يكون هناك إنسان حاضر في حياتك بشكل يومي، تكلمه وتتواصل معه وتراه وتسمع صوته وتأخذه معك في مسيرة أيامك، ثم يختفي فجأة فلا يعود له صوت أو شكل أو صدى في حياتك، ألا يعني هذا موته بالنسبة لك تحديدا، بصورة أو بأخرى؟ ألا يعني هذا فناءه، الواقعي وليس الرمزي، إخلاء لمكانه في حياتك؟ لربما السؤال الأكثر رعبا هو ألا يشكل اختفاؤك أنت من على الشاشة الإلكترونية، صوتا وصورة وكلمات، نوعا من أنواع الفناء؟ هذه الفكرة العنيفة المرعبة التي طالما قضت مضجع البشرية وشكلت أكبر مصدر لمخاوفها وهمومها وعقدها النفسية وأقوى أساس للبناء الفكري لأديانها!
لا شيء أكثر إرعابا بالنسبة للبشر من استمرار الحياة من دونهم. ففي هذه الفكرة، يتمركز كل عذاب حقيقة الموت وتتمحور كل المخاوف تجاهه، أن “يستمر الحفل دوننا”، كما وصف الفكرة الراحل المفكر كريستوفر هيتشينز، هي القسوة كلها. لو أننا كلنا نفنى في نفس واحد، لكانت المصيبة أقل وقعا، لكنها حقيقة أننا نترك حياة كاملة ممتدة، ومستقبلا مثيرا خلابا وجديدا لن نعرفه، وبشرا لن نقابلهم خلفنا، فيما نحن نتجه إلى “تلك العتمة الباهرة”*، حيث تستمر الدنيا دون أدنى تأثر لغيابنا، وحيث نغادر نحن دون إحداث ولو “طعجة” صغيرة في خاصرة الدنيا التي ستتمدد باردة جامدة صلفة غير آسفة على أفضل أو أعلم أو أغنى أو أجمل من مشى على أرضها منا. “من يموت يخسر كل شيء” يقول كريستوفر هيتشنز، وهذا هو مصدر عذاب الفكرة التي نعاني منها ونحن بعد أحياء مستمرين.
لربما هكذا سيكون حالنا حين نختفي بكل تواريخنا، بكل كلماتنا، بكل صورنا، بكل أعمالنا وإنتاجنا ومشاريعنا وأموالنا مع اختفاء مواقع التواصل “الإنترنتية” أو مع اختفاء هذا العالم الهلامي بأكلمه؛ سنخسر كل شيء. لربما سنعود نحن البشر إلى زمن الدوائر الضيقة، ليصغر عدد المعارف ولتضيق مساحة المعلومة والمعرفة ولتقل فرص العمل والتواصل وجني الأموال ولتختفي فرص الظهور النرجسية التي أصبح عدد كبير منا يعتاش نفسيا عليها. ستصغر دنيانا كثيرا، وعليه ستقل أيامنا “معنويا” فيها، حيث ستنخفض كمية المعلومات والمعارف والقدرات إلى أقل القليل في مدة حيواتنا المعتادة؛ وما هي الحياة سوى تلك “الحشوة” التي نضعها فيها لتحدد فعليا طولها وامتدادها؟ أن تحيا عشرين سنة بالتواصل “الإنترنتي” فذاك يعادل أضعاف أن تحيا ذات السنوات دون هذا التواصل وما يقدمه من معرفة ومعارف. وعليه، ستقصر أعمارنا بلا إنترنت، وستنكمش حيواتنا إلى حجم حشوتها الصغير، لنحيا أقل ونفنى أسرع.
كل فناء مؤلم، لكنه قدرنا المريع البارد العدمي كبشر على سطح هذه الذرة الكوكبية في هذا الكون الشاسع الممتد إلى ما لا نهاية والذي هو في الغالب واحد من أكوان عدة ممتدة كلها إلى ما لا نهايات خرافية العتمة، والتي جميعها، لربما، ما هي سوى ذرات متناثرة في بلورة زجاجية يهزهزها طفل صغير في عالم آخر بعيد مثير.
أكتب هذه النظرة التأملية في إمكانية فنائنا “الإنترنتي” ومدى تشابهه إن وقع (أو بالأخرى حين يقع) مع فنائنا الفعلي، لربما بغرض تهوين الفناءين، ولربما بهدف فلسفتهما استعدادا لوقوعهما، ولربما بسبب خوف قاتم في الصدر لا يجد مخرجا له إلا من خلال كلمات تصل لمستقبليها، ويا لغرابة الأمر، من خلال الإنترنت.
*تلك العتمة الباهرة، عنوان لرواية المبدع الطاهر بن جلون.