القبعة البيضاء
مونديال قطر أظهر الكثير مما يرقد أسفل المظهر الخارجي، أتى إلى السطح بالكثير من المشاكل العلاقاتية بين المجتمعات الإنسانية، وبلا شك، وضع المجتمعات العربية أمام الكثير من القضايا التي تدخل في باب الحريات والحقوق والتي تشكل حلقة وصل (أو فصل) بينهم وبين المجتمعات الغربية، حلقة تحتاج للكثير من التفكير والتدبر لإحسان تشكيلها ورقرقة تدوريها وصقل لمعانها حتى تبقى دوماً قوية ولطيفة في إيصالها بين شعوب العالم المختلفة. نعم لربما أظهر المونديال الذي ترعاه دولة عربية أن العالم العربي الإسلامي يتواجه اليوم ومنظومة معاصرة متطورة من المفاهيم الحقوقية والحرياتية التي تتطلب مساحة أكبر بكثير مما يمتلك هذا العالم، إلا أنه بين كذلك أن العالم الغربي لا يزال يضع على رأسه قبعة مرتفعة “بيضاء” من الاستعلاء الحقوقي، لا يزال يعمل ضمن منظومة Manifest Destiny أو القدر أو المصير المتجلي الأمريكية الأصل والتي من خلالها يعتقد الغرب أن قدره هو إنقاذ العالم وواجبه هو حمايته من نفسه وتحقيق العدالة فيه “غصب عن عينه.”
لربما للغرب تفسير لمنهجيته المتعالية، إلا أن ليس كل تفسير هو تبرير. نعم المنظومة الحقوقية الشخصية الغربية شاسعة التطور، ونعم الحريات الشخصية مقدسة المكانة، إلا أن الاستثناءات الكثيرة تضع ألف علامة استفهام على صدق وحياد منظومتي الحقوق والحريات الغربيتين. لماذا تتناقض المواقف تجاه أوكرانيا وفلسطين؟ لماذا تقف الحريات حائرة متلفتة عند حجاب المرأة المسلمة الذي أصبح اليوم معضلة اجتماعية فكرية حياتية في الشارع الغربي؟ لماذا استقوت ثقافة الالغاء أو Cancel Culture مؤخراً تجاه أي فكرة تناقش الرائج أو السائد، دع عنك من تتضاد معهم أو تقف بوضوح ضدهم، حتى أصبحت سيفا مسنونا معلقا فوق رقبة كل من يعبر عن رأي مخالف للمنظومة الحقوقية المعاصرة؟ أليس الأولى بهذه المنظومة أن ترعى أولاً وقبل كل شيء حقوق المختلفين معها بحكم نوعيتها وفكرتها التأسيسية؟
لا يمكن أن نتخيل أن يقام المونديال في دولة غربية، فتذهب جماعات عربية هناك تنادي مثلاً بحق تعديد الزوجات أو بوجوب فرض الحجاب على النساء أو بضرورة فصل المقاعد النسائية عن الرجالية في الملاعب أو بفرض غيرها من الأفكار التي قد تكون طبيعية أو أساسية في المجتمعات العربية المحافظة، ذلك أن هؤلاء يفترض أنهم يعلمون أنهم ضيوف دولة لها عاداتها وتقاليدها وأعرافها وعليهم، وجوباً، احترامها والانصياع لها، وذلك فيما عدا استثناء واحد سآتي على ذكره بعد أسطر قليلة. وعليه، من المستغرب أن يزور الضيوف الغرب الدولة العربية المستضيفة للمونديال محملين بهذا الشعور الاستحقاقي لفرض رؤاهم وعاداتهم وممارساتهم الاجتماعية والحقوقية، أي فكرة أفضلية بشرية سيطرت فدفعت بالبعض لاستشعار أحقيته وأولوية مطالبه وعاداته ومعتقداته وأيديولوجياته؟
يتجلى الاستثناء لهكذا وقوف عند عتبة الخصوصية الثقافية للآخرين عند حد المطالبة بأمن وسلامة المختلف، ذلك أنه لا يمكن فرض عادات وتقاليد وممارسات اجتماعية على المجتمعات الأخرى، ولكن بكل تأكيد يمكن المطالبة والسعي من أجل بل وفرض تأمين حيوات وسلامة الآخرين في ظل منظومة حقوقية عالمية يفترض أن أول أولوياتها هي سلامة البشر وأمنهم. كان يفترض على الجمهور الغربي مثلاً احترام الامتناع عن شرب الكحوليات أو عن لبس شارات مساندة القضايا الجندرية طالماً أن في ذلك تضارباً والمنظومة العاداتية والقيمية للدولة المضيفة، فليس هذا مكان أو زمان أن ينشط هؤلاء من أجل القضايا الحرياتية أو الحقوقية ولا طريقة الفرض والتحدي هي التي تغير قيم المجتمع الآخر، هذا على افتراض أن محاولة التغيير هذه صحيحة ومستحقة. إلا أن ما لا يجب أن يقبل به هذا الجمهور هو إعلان العداء السافر لهذه الفئات البشرية أو منعهم من المشاركة أو التحريض على إيذائهم بأي صورة، عندها يفترض أن يكون للبشرية بأكملها موقف من مجتمع من عاداته إيذاء المختلف أو العبث بأمنه وسلامته.
إلا أن أي من ذلك لم يحدث، فقد رحبت قطر بالجميع مع المطالبة باحترام عاداتها وطبيعة ثقافتها المختلفة، دون إعلان عداء لأحد أو تعريض سلامتهم لأي خطر، أقول ذلك وأنا شخصياً لدي من التحفظات ما لدي تجاه المناسبة بأكملها وطريقة التحضير لها. من يجد أن منهجية قطر الحقوقية إبان مناسبة المونديال غير كافية، عليه بمقاطعة المونديال، لا أن يحضر متحدياً وبالتالي خالقاً المزيد من العداء والكراهية بين الأطراف المختلفة، حيث لا أدل على ذلك من الحملات المضادة للفكر التحرري الجندري في العالم العربي اليوم الذي يشعر أن هذه الأفكار تدس في حلقه دساً، وهو الحلق صغير البلعوم الحقوقي، الذي هو بالكاد قادر على أن يبتلع بعض الحقوق الإضافية المعاصرة، فكيف بدس وجبة دسمة ضخمة من هذه الحقوق دساً في مريئه الملتهب؟
أختبر نفسي في موقف افتراضي مشابه تجاه قضية مرتفعة الحساسية بالنسبة لي شخصياً، لو أنني في زيارة لمجتمع محافظ، صعيد مصر على سبيل المثال، والذي أستخدمه كمثال لعشقي له وأهله، هل سأذهب لهم رافعة شارات تحرير المرأة ومساواتها؟ هل سأندد بثقافتهم وأخرج عليهم بمظهر ينفرهم وأرفع شارات تجرح مفاهيمهم الأخلاقية وأفرض عليهم منظوري الذي في الغالب سترفضه النساء بحد ذاتهن وأنا في عقر دارهم؟ هل سيكون هذا الفعل جهاد حقوقي مستحق أم تدخل سافر وتعالٍ جاهل بطبيعة هذا المجتمع وبالطريقة الصحيحة والصحية في التقرب منه؟
إن المنظور الغربي لثقافته على أنها الأعلى والمستوجب فرضها على العالم أجمع تضرب هذه الثقافة بحد ذاتها في لب قلبها، فمن باب أولى، تأكيداً لهذه الثقافة التي يفترض أنها حقوقية صارمة، حماية حق المختلف واحترام ثقافته المغايرة وعدم الاستعلاء عليه خصوصاً حين زيارته في عقر داره. محاولات “الإنقاذ” بالقوة ليست ناجعة أبداً ولن تكون، ولا تبدي سوى تعالياً “آرياً” يفترض أن انتهى زمنه وولى.