حموضة
في السنوات العشر القادمة، وإذا لم تتحرك الحكومة لإصلاح جذري في المناهج الدراسية، وتأسيس تحرك قوي للإصلاح الاجتماعي عن طريق التوعية الإعلامية، وتوحيد الدوائر الخمس وتذويب الفروق المناطقية بين الطوائف، وإيقاف التوظيف الطائفي والوسائط المريضة، ومن ثم علمنة قوانين وسياسات البلد بما يقطع الطريق على التصويت النيابي الطائفي، فإن النار ستشتعل، والأسلحة سترتفع، والهوة ستتعمق.
ليس من خطر أكبر علينا اليوم من خطر الطائفية، فالأحداث الكثيرة الماضية وصولاً إلى قضية السيد حمد الفلاح رئيس مؤسسة الخطوط الجوية الكويتية، كلها تؤكد أن تلك هي مشكلتنا الداخلية الأفظع على الإطلاق.
كتبت في الأسبوع الماضي حول حاجتنا الماسة إلى علمنة الدولة التامة على ضوء الاختلاف “اللطيف” في تحديد مواقيت الأعياد بين الشيعة والسنّة وما يتطلبه مثل هذا الاختلاف من محايدة الدولة تجاه الأديان والطوائف، لتأتي قضية مثل قضية السيد الفلاح لتؤكد عمق المشكلة والحاجة الماسة للإصلاح الجذري الفوري.
وفي رأيي، لا تتجلى خطورة المشكلة فيما أتى على لسان السيد الفلاح في التسجيل الذي انتشر كالوباء على أجهزتنا الإلكترونية، فالموضوع لا يزال قيد التحقيق، سواء الرسمي أو غير الرسمي، والدولة لا يمكنها أن تضمن دوماً حياد كل موظفيها وصفاء سرائرهم، وفي النهاية، لا نستبعد دوران مثل هذه الحوارات الخاصة بين الناس حتى نكون على درجة من الواقعية.
المشكلة تتجلى في أبعاد مختلفة، وتوصلنا إلى نتائج عدة؛ فأما الأبعاد التي تتجلى من خلالها المشكلة فهي رد فعل الشارع، ورد فعل النواب، ورد فعل الحكومة، وأما النتائج فكلها تشير إلى أن الطائفية تنخر المجتمع وأن الخطر محيق، وأن مصير الشارع الكويتي قد لا يختلف كثيراً عن مصير جيرانه إذا لم نتحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
لا يوجد وصف أفضل لأبعاد المشكلة الآنية سوى كونها حزينة بحق، فقد امتلأ الشارع بالحديث الطائفي الذي استخدمت من خلاله ألفاظ هي بحد ذاتها يجب أن تطلق صافرة الإنذار بأخطر نغماتها، حديث مداراته مظلمة معبأة باتهامات بالخيانة العظمى وتشكيك في ذمم أهل البلد، مدارات تتجدد مع كل جديد على الساحة الإقليمية. فأحداث البحرين ولبنان والعراق وسورية دوماً ما تجد صداها ها هنا، صدى يدور في ذات المدارات القميئة ذات الاتجاهين المذهبيين.
هذا الحديث القادم من الشارع تتقد شرارته بأنفاس نواب الأمة الذين، وبكل قوتهم، ينفخون الاشتعال فيه، تاركين إيانا بحموضة مرض خبيث، وما تحذير النائب هايف للحكومة من المساس بالسيد الفلاح إلا إشارة إلى العمق الغائر المظلم للمشكلة من نائب يحذر الدولة قبل أن يستتب تعاملها مع الموضوع عاكساً الصورة المرعبة لما في جوفه.
ومن مجلس الأمة إلى الحكومة، إلى الجهاز الإداري الصائخ السمع للأصوات المرتفعة التي تمتطي الدين لاهبة ظهورنا بسياط التخويف، جهاز يسقط على ركبتيه كلما بسمل نائب وحوقل جاره لتبدأ جوقة التصريحات الطائفية المخزية.
تلك هي الأبعاد، وأما النتائج فلا نترجى سوى أن يحفظنا الخالق من سوادها القادم، ففي السنوات العشر القادمة، وإذا لم تتحرك الحكومة لإصلاح جذري في المناهج الدراسية، وتأسيس تحرك قوي للإصلاح الاجتماعي عن طريق التوعية الإعلامية، وتوحيد الدوائر الخمس وتذويب الفروق المناطقية بين الطوائف، وإيقاف التوظيف الطائفي والوسائط المريضة، ومن ثم علمنة قوانين وسياسات البلد بما يقطع الطريق على التصويت النيابي الطائفي، فإن النار ستشتعل، والأسلحة سترتفع، والهوة ستتعمق، فليست أحوالنا مغتربة عن أحوال جيراننا، نحن في خطر، نحن في خطر.