معلبات
هي في عمر ابنتي، تجلس أمامي على مقعدها الخشبي، تتكئ على يمينها مؤمنة ذقنها براحة يدها. عيب عليها، هي تقول، هذه التي تلبس حجاباً يرتفع الى منتصف رأسها، إما تلبس الحجاب الصحيح وإما تخلعه وتخلصنا. ابتسمت لها وأنا أتذكر حماسي الشبابي لأفكاري، وما العيب في أن تلبسه لمنتصف الرأس، سألتها:
وما الذي يجعل ما تعتقدينه هو الحجاب الصحيح؟
لأن الحجاب الصحيح مذكور في القرآن، ردت قائلة، صحيح؟
رددت عليها: لا أعرف آية تشير الى الحجاب غير تلك التي تقول بإدلاء الجلاليب على الجيوب والأخرى التي تنص «وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب» ولربما وردت كلمة الحجاب في مواضع أخرى، الا أن هذه النصوص جميعها لا تشير مباشرة لتغطية الرأس ولا لطريقة هذه التغطية، كما وأنها عرضة لتفاسير مختلفة، حتى أن هناك بعض المدارس الإسلامية التي لا تعتقد بوجوب الحجاب أصلاً.
برقت عينا الشابة الغاضبة، غمغمت بكلمات بدت وكأنها موجهة لراحة يدها أكثر منها اليّ. قلت لها، لا تغضبي عزيزتي، لست أحاول أن أقنعك بصح أو خطأ، لا أعتقد بوجود صح أو خطأ ثابتين أصلاً، لكنني أحاول أن أوصل فكرة أن هذه أحكام نسبية لا نستطيع كبشر التعايش مع اختلافاتها بيننا سوى بمد نسيج الحرية الى أقصاه. ليس عليك أن تقبلي بفكرة الآخر، ليس عليك حتى أن تحترميها، لكن عليك وبكل تأكيد إفساح المجال لها وقبول حقها في الظهور. لكن ما بدا خلف العينين البنيتين حكى قصة حزينة، رسم طريقاً موحد الاتجاه. فقد حسمت هذه الفتاة الشابة أمرها، اكتشفت هي كل حقائقها وحكمت على بقية البشر المختلفين عنها. انتهى هدف الحياة لدى هذه الصغيرة قبل ان يبدأ، انطفأت دهشتها قبل ان تشتعل، قُبرت أسئلتها قبل أن تولد. هذه المرأة الصغيرة أتت في رزمة متكاملة، محملة بالصح والخطأ والحقيقة والخيال، بأجوبة بلا أسئلة وباختيارات بلا إرادة، كل شيء جُهز لها، كل فكرة، كل دهشة، كل تساؤل، كل قرار، كل شك، كلها محسومة، كلها مرسومة، كلها سريعة التحضير، قابلة للتجميد، حاضرة فور ولادتها.
خفضت عيني لتلتقيا بعينيها نصف المغمضتين بغضبهما. قلت لها، لعلي مخطئة، تنفست الصعداء وقالت، نعم لعلك. قلت لها يعجبني حماسك ودفاعك عن إيمانياتك، امتدت شفتاها بشبه ابتسامة، بادرتها، لكن هل تعرفين تاريخ هذه الإيمانيات؟
مثلاً، هل تعرفين تاريخياً متى بدأ الحجاب، ولماذا؟ هل تدركين أنه لفترة كان يستخدم للتفريق بين الأمة والحرة؟ بدا لي أن صوتاً أشبه بخوار مكتوم نم عن فمها الصغير، رفعت عينيها، وألقت سريعاً بيدها على بطنها، خلتها للحظة تبحث عن سيف تحاربني به. أسرعت متراجعة وقد رق قلبي لألمها، لربما أنا مخطئة. عموماً، بادرتني هي: أياً كانت البداية والتاريخ، الحجاب اختيار حر وحق لصاحبته.
وماذا اذا اختارت أن تلبسه لمنتصف رأسها، قلت لها مداعبة؟
فأكدت: هي وشأنها.
قلت لها: إذن وصلنا، ولكن هل تختار المرأة فعلاً حجابها؟
أكدت، طبعاً، فتساءلْت، وهل في طيات التهديد بالويل والثبور، والحرق والقلع والتعليق من المناطق الخاصة، واذابة الجلد واعادة ترميمه، وقبل تلك كلها عذاب قبر تذوب لتخيله القلوب، هل في طيات كل هذا الجسد الأيديولوجي من التهديد والإرعاب والترويع لمحة اختيار أو إرادة حرة؟ هل الانسان المشلول بخوفه فعلاً يمتلك حرية قراره؟ خلتني أرى بريق العينين وقد اشتد وحشرجة الصوت وقد اخشوشنت، فبادرت رافعة الراية البيضاء، لابأس يا صغيرة، لا بأس، لربما أنا مخطئة، أنا أجرب وصفات عديدة وجديدة، هامش الخطأ عندي عظيم، أنت معلبة جاهزة، هامش الخطأ عندك ضئيل. بضع ثوان احتاجتها الصغيرة لتتلقف ما قلت لها، كنت أنا خلالها قد هربت بجلدي، هربت من ألمها وغضبها وشعوري بالذنب. كنت أعرف تماماً أنني مثلها معلبة، وان اختلف غلاف علبتي، وان استطعت أحياناً أن أرفع غطاءها وأطل خارجها. انه قدرنا كبشر، كلنا نعيش في علب لا نراها، فقط نرى علب الآخرين، فنعتقد أنفسنا أحراراً، ونتوسم أننا أخيار، ونتصرف على أننا أنصار، أنصار الحق والحقيقة، في حين أننا في الواقع لسنا سوى …معلبات.