تناولت في مقال الأسبوع الماضي موضوع تصريحات الوزير اللبناني، جورج قرداحي، ومبالغة ردة الفعل الخليجية التي لربما عَقَّدت الوضع الدبلوماسي، ولم تخدم أي هدف إصلاحي. كلنا في الشرق الأوسط نتحمل جزء من المسؤولية لما آل إليه الحال في لبنان، وأتصور أن دور دول الخليج تحديدا واضح وغير قابل للنفي، وهو دور يحتاج لدراسة وتحليل وإصلاح للوصول بلبنان إلى بر الأمان، أو في أقل الأحوال، لتركه يتنفس ويتدبر أموره.
وطبعا، كان رد الفعل الأول على مقالي هو أن “الأصل يحن” كما كتبت إحدى المغردات، لتتوالى الردود مركزة تماما على موضوع أصول عائلتي الفارسية ومذهبها. أتصور أن هذا الربط الإثني القديم لازال متوارثا عند الكثير من المجتمعات البشرية، حيث أن طبيعتنا البيولوجية البدائية وعقولنا متأخرة التطور لا تزال تتمسك بالكثير من الاعتقادات الخرافية الكوميدية التي لا يمكن لمنطق أن يقبلها أو لعلم أن يتحقق من صحتها. وعلى الرغم من أن المجتمعات الغربية تشترك مع مجتمعاتنا الشرق أوسطية في التمسك بالنخبوية العرقية أحيانا، إلا أن هذا المفهوم، في هذه المجتمعات المتقدمة، أصبح اليوم يأخذ منحى فكاهيا، حيث قليل ما يتم التعامل معه بجدية أو أخذه بعين الاعتبار حين يكون هناك قرار أو حكم ما على المحك.
تحضرني في هذا السياق القصة المؤثرة للمهندسة المعمارية، مايا لين. ولين هي معمارية أميركية من أصول صينية، ولدت في أميركا لوالدين صينيين هاجرا إلى أميركا واستقرا فيها ليعملا أكاديميين في جامعة أوهايو. تعتبر أهم إنجازات لين المعمارية هو النصب التذكاري لمحاربي فيتنام والذي مقره العاصمة واشنطن. في أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن الماضي، تشكل صندوق النصب الذكاري لمحاربي فيتينام كمؤسسة غير ربحية والتي بإذن من الكونغرس طرحت مسابقة تصميم لهذا النصب والتي فازت فيها لين، وهي بعد طالبة جامعية لم تتعد الثانية والعشرين من عمرها، حينها. بعد أن تم فتح الموقع للزوار، تعالت الاًصوات المناهضة للعمل، والتي تطورت لاحقا لتحمل نبرة عنصرية بغيضة لاحقت لين لفترة طويلة من الزمن حتى أجبرتها على الانزواء في مكتب هندسي صغير بعد تخرجها، لتبتعد عن الأضواء ومتاعبها وذلك رغم شهرتها وشهرة عملها الكبيرين.
صممت لين النصب التذكاري لمحاربي فيتنام على شكل حائط من الغرانيت الأسود مغروس في أرض معشوشبة متخذا شكل الحرف V على تلة منخفضة في “حدائق الدستور” في العاصمة واشنطن والتي تضم أهم النُّصب الأميركية. محفور على هذا الحائط العاكس والذي يبدو كمرآة سوداء أسماء 58 ألف من القتلى والمأسورين والمفقودين في الحرب الأميركية الفيتنامية، ليشعر من يقف أمام هذا الحائط وكأنه أمام بوابة إلى العالم الآخر، حيث، كما تصف لين، سيكون الحائط “مساحة تواصل بين عالمنا والعالم الآخر الأهدأ والأكثر ظلاما وسلاما . . . لم أنظر قط للنصب على أنه حائط، على أنه شيء، ولكن على أنه حافة للعالم، جانب مفتوح منه”.
تقول لين إن الفكرة تبدت لها في شكل جرح عميق في الأرض، هذا الجرح سيشفى لاحقا وستتنامى الأعشاب حوله، إلا أن ندبته ستبقى للأبد محفورة في الوجدان وفي الأرض. العمل إبداعي ومهيب بكل المقاييس، وفي المرتين اللتين زرت فيهما الموقع، لم أستطع فعليا أن أمشى مسافة الحائط بأكملها، كان الموقف مهيبا ومحزنا وأنا أرى تفاعل الناس مع الحائط، ومع أسماء أحبتهم عليه. بكل هذا الجمال والهيبة إذن، ما الذي استدعى الغضبة العامة؟
لقد شعر البعض، بمن فيهم بعض المعماريين المختصين، أن النصب لم يكن على مستوى الحدث، وأنه أبسط وأقل شأنا من أن يمثل التضحيات الكبيرة التي قدمها الجنود القدامى هؤلاء، حتى أن الحكومة أمرت بصنع تماثيل تذكارية أخرى لتوضع قرب النصب تهدئة للرأي العام. في عارض تقييم العمل الفني، نظر العامة لأصول لين الصينية، متهمينها بأنها تعمدت إهانة الجنود الأميركيين ببساطة فكرتها. تصف لين هذه الفترة بالقاسية من حياتها، حيث أنها احتاجت وقتا طويلاً لتتجاوز الهجمة العنصرية بكل قسوتها وآلامها.
اليوم، وعلى الرغم من الفترة السياسية الحرجة التي مرت بها أميركا، ستكون من الصعوبة بمكان أن تتكرر مثل هذه الأحكام العرقية المتخلفة. أعتقد أن الغرب، إلى حد كبير وليس نهائي، قد تجاوز هذا النمط من التفكير بكل سذاجته وجهله، ولربما الفضل الأول في ذلك يعود لتخالط أعراقهم وأجناسهم إلى حد كبير وإلى ارتفاع الحس العلمي الذي يدحض فكرة نقاء الدم، وأخيرا لتمسكهم بفكرة الدولة المدنية الحديثة، التي رغم كل عيوبها السياسية والتصنيفية للبشر بداخلها وخارجها، قامت على مبادئ مهمة من الوطنية والولاء والتي تبتعد إلى حد كبير عن العرقية والإثنية وفكرة امتداد الدم.
اليوم، نجد حكاما ووزراء وبرلمانيين ذوي انتماءات بعيدة، وقد تكون معادية، لدولهم موجودون على رأس مناصبهم، ومبدعين في العمل من أجل أوطانهم. ليس عندنا نحن، فالأصول عندنا تحدد الولاءات، اسم العائلة يحدد القيمة، وامتداد النسب يخلق الأحكام المسبقة. في العالم الشرق أوسطي أنت تولد وتاريخك القادم وولاءاتك والتكهن بكل نواياك وسلوكياتك يلتصق بك، كمشيمة لا تنفصل أبدا حتى وهي تسمم حياتك وحياة مجتمعك يوما بعد يوم.
لذلك، حين كتبت أشير إلى مبالغة ردة الفعل الخليجية تجاه قرداحي، وإلى حقيقية آثار الحرب المدمرة أيا كانت وتجاه من كانت، أتت ردة الفعل لتشير لأصولي الفارسية التي عمرها يفوق 300 سنة. لا أتكلم الفارسية، بكل أسف، ولم أزر إيران يوما في حياتي، بكل أسف كذلك، وأكتب مناهضة لكل تحرك لحزب الله لربما منذ ما قبل سنة 2006، وأكتب معاتبة كل تعاطف خليجي شيعي مع السياسة الإيرانية، والذي هو تعاطف ينبع من سذاجة دينية، ويؤدي إلى نتائج وخيمة، وأستنكر بكل وضوح الموقف الإيراني المخزي المساند للنظام في سوريا، وأنقد وبشدة نظام المرشد الديني الذي يدفع بإيران وجيرانها وبسرعة هائلة إلى حائط سد، والذي يغتال الحقوق الإنسانية والمدنية للإيرانيين بحد ذاتهم كل يوم.
ولكن ما أن أنتقد رجل دين سنيا، رغم مواءمة هذا النقد مع توجهاتي الأخرى، حتى أصبح شيعية علمانية كافرة، نعم أتحول لكل هذه المتناقضات مع بعضها، دع عنك إذا ما أعلنت رأيا مساندا لثوار البحرين على سبيل المثال، والنداء بضرورة حفظ أمنهم، أو آخر مستنكرا استمرار الحرب السعودية الحوثية، أو ثالثا يعترف بوجود تمييز ضد الشيعة كمواطنين في دول الخليج. ماء زمزم كله لن يغسل “طائفيتي”، وأغطية الدنيا كلها لن تستر “ولائي” المختبئ تحت أستار الليبرالية اليسارية. وكما قال أحدهم على تويتر “تتكلمون على أساس أنكم عرب”، مشيرا إلى استحالة هذا الانتماء، فثلاثمئة سنة من الإقامة في الخليج بعد لم “تشفع” لى مدنيا، دع عنك عرقيا، فالزمن لا يشفع لأحد في هذه المنطقة الحارة من الكرة الأرضية، ولربما أهم مثال على ذلك هو تفاقم مشكلة عديمي الجنسية في منطقتنا والذين لا يشفع لهم لا زمن يمر ولا ولاء يثبت ولا حتى أرواح تزهق في سبيل الوطن.
الموضوع كله في دمك، أصيل أم غير أصيل؟ وعلى حين أن العلم ينفي فكرة نقاء الدم، بل ويحيل الامتداد البشري إلى دم الأم، لا الأب، الذي هو أكثر دقة في تحديد هذا الامتداد، إلا أننا لا نزال نعتمد على نقاوة خرافية وامتداد ذكوري خيالي فقير الدقة، غني الجهالة.
قرداحي ليس عضوا في حزب الله، لبنان ليس كله حزب الله، كل وأي رأي يقال مناهض للسياسة الخليجية لا يعني السقوط في أحضان السياسة الإيرانية. ولمن لم يتأكد من “طائفيتي” بعد، ها أنا أعيدها حتى تثبت التهمة، الحرب دائما وأبدا خطيئة يمكن في الأغلبية الغالبة تفاديها لو لعبت الأطراف المعنية سياسة أنظف بعض الشيء. وتبقى الضرورة الإنسانية والمنطقية والأمنية ملحة لتوقف الحرب السعودية الحوثية التي أنهكت الجميع وتحديدا اليمن التي أعادت لها هذه الحرب وباء الكوليرا الذي اختفى منذ القرن الثامن عشر.
ماذا نريد أكثر من عودة وباء قاتل واستبداد الفقر والعوز والموت، وهدم كل ملمح لشكل الدولة حتى نقول يكفي؟ لا أدري إن كانت في عروقي دماء تحن، لا أعرف إن كانت تلك إمكانية واقعية علمية، لكنني متأكدة أن في ضلوعي قلب يحن لشيء من الاستقرار والشعور بالأمان للمنطقة بأكملها.