نستحق الفناء

غزة، ترابها الذي أصبح طيناً بدماء أطفالها، غزة، أرضها وسماءها المحاصريتن منذ لم نعد نذكر متى، غزة، كرامة عرب مهدرة وانسانية بشر مشوهة، غزة، ألم الدنيا وعذاب الآخرة، غزة، سكين في خاصرة عرب لا يشعرون، مسلمين لا يستحرمون، شرقيين لا ينتخون، غزة، نهاية انسانية وبداية وحشية لم يعرفها العالم من قبل. وفي حين يتجه الانتحاريون الى سوريا والعراق وأفغانستان ليحاربوا ويموتوا طمعاً في حور العين، صغار وصغيرات غزة، أجمل من أي حور عين، أنقى من اي ملاك، أطهر من أي جنة، يموتون بالمئات، ميتة مباغتة، لم تمهلهم الاحتماء بصدر أب ولا حضن أم، ميتة مرعبة، بحجر على الرأس أو متفجر يتشظى في الجسد، ميتة مغتربة، لن يكون لها معنى أو مقابل، فقط أجساد بضة صغيرة، مئات منها ومئات، ملفوفة بقماشات بيضاء ملطخة، مسجاة ليصلي الكبار عليها، وفي التراب تغيب، ومعها ما تبقى من كراماتنا وانسانيتنا.
وعلى عمق المأساة وتمزيقها للروح كلما تبدت للخاطر، كلما زار الأطفال الخيال، كلما تجلت أجسادهم البضة تحت التراب، على عمق وألم الفاجعة، ليس هذا بأسوئها ولا بنهايتها، فما تلك سوى البداية. تقول ايف آنسلر، الناشطة الانسانية والكاتبة المسرحية في مقدمة مسرحيتها «أهداف ضرورية» والتي تدور أحداثها حول مخيم للنساء البوسنيات ابان حرب البوسنة والهرسك:
«عندما نفكر في الحرب، نفكر فيها وكأنها شيء يحدث للرجال في الحقول والغابات. نفكر في القنابل اليدوية والصواريخ الخفيفة. نفكر في لحظة العنف، العاصفة، الإنفجار. ولكن الحرب هي «نتيجة» كذلك، حيث لا تظهر آثارها كاملة على مدى شهور، سنوات، أوأجيال. ولأن العواقب عادة لا تبث على التلفاز، حيث تفقد الحرب بعد فترة جاذبيتها وتنخفض نسبة اقبال المشاهدين على رؤيتها، تبقى تلك العواقب خفية. انها التفجيرات، القنابل في الظلام، هي ما يجعلنا نستمر في المشاهدة. فطالما استمر تواجد القناصين خارج سراييفو، فان سراييفو موجودة. ولكن بعد الانفجارات، بعد القناصين، عندها تبدأ الحرب الحقيقية.
نجد الحرب في النسيج الممزق للمجتمع، في موت الثقة، في تحطيم أنماط الحياة اليومية. نجدها في الصدمات والاكتئاب، في الفقر والتشرد والمجاعة. نجدها في عجز وثورة الضحايا، في العنف الجديد: في الجندي المضطرب نفسياً وهو يضرب زوجته، في الفتية المراهقين يخططون منذ بدء حياتهم للانتقام، في الرعب المستمر عند الأطفال».*
هنا تتجلى لحظة الوحشية الحقيقية للحرب، بعد أن تهدأ القنابل وتقف الرشاشات، بعد أن يدفن الموتى، وتنتهى مراسم العزاء، في تلك اللحظة لا يتبقى شيء سوى الانهيار النفسي التام. وكما تقول آنسلر، ما أن تنتهي أضواء التفجيرات، حتى يغادر الاعلام معتقداً انه اصطاد الحرب في أوجها، في حين أنه يغادر وهي بالكاد تبدأ، تبدأ مع انهيار الأمهات الثكلى، مع تحطم كرامات الرجال، مع انقطاع الماء والكهرباء، مع اغلاق المدارس ومقار العمل، مع تلوث الهواء، مع تصدع المباني، مع توقف الحياة وشلل مرافقها. ما أن ينتهي التفجير حتى نغلق جميعنا قنوات التلفاز، في حين أن غزة للتو تبدأ حربها المريرة، حربها مع الحياة اليومية، حربها مع الثكل والتحطم النفسي والاغتيال التام للأمل ولكل معنى للانسانية.
وبعد أن أكتب أنا هذا المقال، وبعد أن يقرأه قرائي الأعزاء، كلنا نذهب لبقية حيواتنا، واذا ما ازداد وجع غزة علينا، نبعد الجرائد ونقاطع الأخبار، وبقدرة قادرة، وبفعل السحر، ينتهي الألم، وتغيب المأساة. الا أنها لا تغيب، فبينما نحن نأكل ونشرب ونداعب صغارنا ونفترش سفرة افطارنا، يجوع ويرتعب ويلتاع ويموت أطفال غزة، فهم لا يملكون «ريموت كنترول» يغلقون به قناة الاخبار، هم في الواقع، هم الأخبار.
تقول آنسلر: «هناك قوانين تحكم الآخر. نحن نبقيه هناك، خارج نطاق أنظارنا، هو مفهوم مجرد. نحن لا نقترب بما فيه الكفاية لنلمس أو نشم أو نفهم الآخر. نحن لا نريد أن نرى كم هو سهل أن نصبح هذا الآخر، كم هو سريع وصول العنف، كم هومباغت تغير البشر، وقبولهم لكراهية العنصرية.
نحن لا نريد أن نعرف أو نلمس هذه الأجزاء من أنفسنا القادرة على أن تحولنا الى هذا «الآخر».* مأساة غزة وأطفال غزة لا يمكن أن تحدث لنا، هم «الآخر» ونحن هنا، بضغطة زر نحمي أنفسنا ونعزلها عن مصير غزة. كم نحن سذج، كم نحن مغيبين، وكم هو قريب الأسى من حيث لا نعلم. دم الأطفال يعبق هواء الشرق الأوسط، ونحن نغيب في تفاصيل حياتنا، والاعلام الغربي يتجرأ فيصف اسرائيل بالضحية التي تدافع عن نفسها، والعالم كله مشغول بمقاديره. نحن البشر سنفنى في يوم، ونحن كمخلوقات بكل تأكيد نستحق الفناء.
*«أهداف ضرورية»، ترجمة ابتهال الخطيب، صادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت.