أنا اللي حلمي سجنّي
والعمر ضاع ف التمنّي
كان حلم عمري أغني
و الحظ فاتني .. فاتني وحيد
لا الفن كان من نصيبي
ولا حتى يوم كان بإيدي
أبوح بسري لحبيبي
و لسا عايش .. عايش غريب
السجن شايلُه ف ضلوعي
والفرح خانقاه دموعي
والشجن طفى شموعي
والقلب أصبح .. أصبح شريد
كنت أشاهد رائعة محمد صبحي «كارمن»، فوصلت لهذه الأغنية الخلابة(وهذا جزء منها) لأركان فؤاد وسيمون، أغنية أثارت أشجاني وذكرتني كيف أن القلب في هذه البقعة من العالم «شريد». سجن كبير نعيش نحن فيه، تحوطنا خيبات الأمل التي تهرس الأحلام. محمد صبحي، مدرسة مسرحية متكاملة، لا أمل مشاهدة مسرحياته من أوائلها الساذج الى أواخرها المتخم العميق، مسرح يحبه الناس، مسرح يحترم الناس وتلك معادلة صعبة لا تتحقق في كل حين خصوصاً في الشرق الأوسط المنكوب بأحزان بشر لا يريدون أن يتذكروا، فيسعون إلى مسرح يضحكهم ولا يذكرهم حتى كأنه حبة أفيون سامة، تنشر مرض اللامبالاة والسخف في الأرواح العليلة.
ولكن حتى صبحي كسر أحلامي، ففي وقت ما، ولا علم لي بموقفه الحالي، وقف مسانداً لطاغية العراق صدام، اتخذ موقفاً أسماه محايداً في قصة حزينة لا تحتمل الحياد، سلم بكفه على حافر القبور الجماعية، قاتل شعبه بالكيماوي، خان جاره، فزلزل حلمي تحت قدمي، فقدت القدرة على التفريق بين صبحي الواقف على المسرح وصبحي الجالس في حضرة الطاغية، طحن هيامي المسرحي بطاحونة السياسة المريضة، وجردني من «انغرامي»، فبت أشاهد المسرحيات التي أدمنتها، سكة السلامة، تخاريف، كارمن، هاملت، وجهة نظر، وغيرها بنصف عين، وكأن في مشاهدتي لها نوع من الخيانة والإستهتار بآلام الكثيرين ممن تعذبوا بيد ديكتاتور أَحَبه صبحي. سألت نفسي هل يمكنني فصل الفنان عن الإنسان؟ هل أملك القدرة أن أكون موضوعية بهذا القدر؟ وهل «تحق» للفنان العنصريات والتطرفات التي «تحق» للبشر «العادي» ؟
لكنني لست وحدي، نحن جميعاً سجناء أحلامنا المعطوبة، سجناء خيبة الأمل وانكسار الخاطر. حلمي أنا القديم، خشبة مسرح قوية جريئة أبعثر عليها كلمات قاتلة، فأُسقط حكومات وأُنصب أبطال. هكذا كنت أحلم، أن أكون أنا طاغية على مسرح. وبعد أن مر الزمن على روحي فسحقها بواقعيته، علمت أن الفن ليس نصيبي وأني أعيش مغتربة وسط أحلامي، فالمسرح العربي، في معظمه، لا يسقط حكومات بل يسجن الفنانين، ولا ينصب الأبطال بل يصلبهم، هو مسرح يرزخ تحت وطأة رقابة أنظمة تبيح السخف الذي يحلق بالعقول عالياً، مسرح «صامت» لا تسمع فيه إلا ضحكات المغيبين. كان المسرح حلمي ذات يوم، كنت أترجى مسرحاً عالمياً ولربما أوبرالياً، موقعه الكويت، يكون قِبلة المتذوقين ومقصد الحالمين ومرفأ العاشقين للكلمة واللحن والجسد على الخشبة، هذا الجسد الذي هو سر عظمة المسرح، هو مكمن خطورته وهو مصدر قدسيته.
انحسر الحلم اليوم إلى صد الأذى بعد أن كان مبحراً في الخلق الإبداعي، أصبحت فوجدت نفسي آلة رد فعل، لا أفكر في الإبداع ولكن أفكر في الإقناع، وانحصر الحلم في الحفاظ على العدد البسيط من المسارح عندنا في الكويت، وعلى حماية الخاص الجاد منها. طأطأ الحلم رأسه وبعد أن كان أوبرالي النبرة، أصبح في آخر الأوكتاف، كل ما يريده هو المحافظة على القليل الموجود دون الإلتفات للكثير الذي ينتظر تحقيقه، ذاك أصبح ضرب من خيال، فهوى.
وكأن همي هذا لا يكفيني، جلست أعذب نفسي بخيانة محمد صبحي لي، خيانة لا يعرف بها فاعلها. فكرت أن أتواصل معه على تويتر، أن أترجاه أن يبرر ويغير، أن يعطيني سبباً ويوفر لي فرجة في الباب الذي صدني به عن مسرحه، لكنني خفت أن يؤلمني، أن يبوح بما يفسد التبريرات التي رسمتها له في صدري، أن يقتل ما تبقى من غرامي، فقلت أراسله على «القدس العربي»، القدس الذي يعشقه صبحي ويكتبه علناً وتضميناً في مسرحياته، عله يخبرني بشيء يريحني، فيحيي الحلم الذي اقترب أن يصبح رميم.
لو كانت الدنيا غير الدنيا لرجوتك أن توقفني كومبارس على مسرحك يا صبحي، مرة قبل أن أموت، لاستعطفتك إحياء مسرح سعدالله ونوس، واستجديتك إعادة صياغة «ميديا» الإغريقية في نسخة عربية، ولوقفت على باب مكتبك مكتفية بأن أكون شاهدة على الإبداع يتحقق، فــــلا يوجد من يشبهك في ايصال المسرح الهادف الإبداعي، شعبي الضحكة، ذكي النكـــتة، للمشاهد العادي العام، ولكن الدنيا هي الدنيا، وانكسارة القلب ليس لها جبــيرة، أم يا ترى لها؟