ما كنت لأتخيل أنني سأسأل نفسي هذا السؤال ذات يوم، فالحرية والقومية العربية طالما كانتا مبدأين مخلوطين بدمائنا نحن جيل السبعينيات وما قبل، الحرية لأوطاننا والقومية لإقليمنا، ولكن السؤال يلح اليوم من دون هوادة: هل كان حالنا سيكون أفضل لو أننا بقينا مستعمـــــرين؟ هل كان يجب التضحية بحريتنا وبقوميتنا وبهويتنا وبماضينا لنحفظ عندنا حياة الإنسان وكرامته؟ هل كان يجب علينا أن نبصر ونستبصر لنرى نوعية حكومتنا، طبيعة تفكيرنا، دموية تاريخنا، والأهم «قماشة» شعوبنا، فنترجى المستعمر أن يبــــقى ونتوسل السارق ألا يرد غنيمته المحرمة؟
غزة تقصف للمرة الكم؟ حلب تحت النار، بغداد مزروعة بالمفخخات، ليبيا لم تعد دولة، مصر لم تعد آمنة، واليمن لم يعد سعيداً. أعلم أنه سؤال حارق، لربما موصوم باللاأخلاقية السياسية، ولكن ماذا لو بقي الإستعمار؟ ماذا لو بقيت الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس مالكة للأرض، ماذا لو بقيت فرنسا، ألمانيا، ماذا لو تلونت ألسنتنا وتغيرت عاداتنا وتقاليدنا واختلطت أدياننا، هل كان حال الإنسان عندنا سيكون أفضل؟
وكأننا هنا أضعنا بين إثنتين: حياتنا وكرامتنا وأمننا وإنسانيتنا في جهة، وهويتنا وحقنا في حكم أنفسنا وعزة نفوسنا في جهة أخرى، ولكن ماذا جلبت لنا هوياتنا وحقوقنا التعسة في حكم أنفسنا؟ ماذا حققنا سوى الموت في غزة، التشرذم في ليبيا، التفخيخ في العراق، الإنسحاق والتهجير في سوريا، التبعثر في لبنان، والكوليرا في اليمن، هذا اليمن الذي كان ذات زمن مهد الحضارة ليقول فيه مكتب منسق الشؤون الإنسانية في اليمن للأمم المتحدة اليوم أنه «يشهد . . . إحتياجات ضخمة نظراً لتزامن تداعيات تفشي الكوليرا وخطر المجاعة» وأن «المدنيين اليمنيين هم من يتحملون العبء الأكبر لهذه الحرب التي دمرت بلدهم». إننا نحن من بعثرنا أرضنا وحلمنا وكرامات الناس عندنا، نحن من إستلمنا بقعة غنية سخية بالموارد والبشر وحولناها إلى صحارٍ فكرية وقفارٍ موبوءة بالفقر موصومة بالدماء، نحن، ذاتنا نحن من تغنى بالقومية والعروبة في الستينيات والسبعينيات، قد غنينا الولاء والطاعة لحكوماتنا في الثمانينيات والتسعينيات، وها نحن نرقص بخلاعة لأمريكا وإسرائيل على ضفاف القرن الواحد والعشرين.
نحن، نحن الذين تركنا كل شيء وأمسكنا بطوائفنا نحرق بها بعضنا البعض، أشعلنا الوضع السوري والبحريني واليمني، عود ثقاب في لبنان، عود آخر في ليبيا، دين أمام دين في مصر، مؤامرات في الخليج، تحزبات في فلسطين، كلها تزوم نيرانها بزيت طائفيتنا اللزج الكريه. بالطبع الوضع أبعد وأعمق، بالطبع تدخل في المعادلة السياسات الخارجية والمصالح والأموال والرغبة في الأرض، بالطبع هو تاريخ طويل وحقارات عالمية وجشع له عمر البشرية، ولكن الأمر يبدأ وينتهي عند عود ثقاب طائفيتنا، كلما وقفنا نتساءل ونسائل ما أتينا، يشتعل عود الثقاب ليلقى بظلاله السوداء على العقل والمنطق وليضرم نيرانه في كل شيئ، وأولها كراماتنا.
عندما تعيش في إقليم فيه جيران لك يتعذبون كما السوريون، يموتون كما اليمنيون، يقمعون كما البحرينيون، يتشرذمون كما الليبيون، ينقسمون كما اللبنانيون، يسرقون في وضح النهار كما الفلسطينيون، يتفجرون كما العراقيون، يحاصرون كما القطريون، عندما تعيش متجاوراً وكل هذا العذاب وغيره مما لا يعد ولا يحصى لابد أن يحضرك السؤال: يا إلهي ماذا فعلنا؟