في مقال غاية في الظرف وغاية في العمق كذلك والمعنون «هذا ما تعلمته من تجربة الأمومة»، تتحدث نوارة نجم الكاتبة والناشطة السياسية المصرية عن تجربتها مع الأمومة. تبدأ الكاتبة مقالها قائلة: «يبدو أن هناك خداعاً ما حدث. هناك رسم لصورة الأم غير واقعي بالمرة، ربما هي الصورة التي يتمناها المجتمع، لكنها ليست الصورة الحقيقية».
في الواقع تعاني الكثير من النساء من هذه الصورة غير الواقعية والتي تجعل من المرأة «الطبيعية» تلك التي تتوق للحمل والإنجاب وتلك التي تقع في حب طفلها مباشرة ومن دون أي مقدمات، في حين أن واقع الكثير من النساء يقول أنهن لسن جميعهن يرغبن في الأمومة، وأن العديد منهن يحتجن الى زمن وتدريب نفسي ليقعن في حب أطفالهن. يفرض المجتمع موقعين متضادين على المرأة، فهي إما شيطان خليع أو ملاك أمومي، كل الدرجات المتفاوتة بين هذين الموقعين لا يراها المجتمع الذي كثيراً ما يتجاهل إنسانية المرأة التي قد تضعها على أي لون من ألوان الطيف الإنساني المتعددة بين هذين المتضادين المتطرفين.
تتحدث الكاتبة بطرافة عن «إنتهاء أيام الصعلكة» بعد إنجابها وعن تغيّر حياتها وطبائعها التام فتقول: «صرت شخصاً آخر، بصفات أخرى، ونمط حياة آخر، ووزن آخر، (مش قادرة أصدق إني كومت الشحم ده كله ومش عارفة أخلص منه) وبإحساس دائم بالذنب. أنا لست هذا الملاك الذي يعيش من أجل غيره بالرغم من تغيّر نمط حياتي، ولا أظن أن الجنة تحت أقدامي. بل أظن أن الجنة على رأس أولادي الواقعين تحت رحمتي ورحمة مزاجي المتراوح المتأرجح». تتساءل نجم عن مدى إستحقاق الأم للقب القلب الكبير، فالأم، كما تقول نجم، هي التي أتت بالأطفال للدنيا مختارة وهي لم تأت بهم لتعذبهم بالتأكيد. وتنوّه نجم أن «لا أحد يتحدث عن قلب الإبن أو الإبنة، يعني مثلاً لا أحد يذكر أننا في أحيان كثيرة نخطئ في حق أبنائنا وأنهم يسامحوننا، ويغفرون لنا، ولا يعاقبوننا على ما قد نقترفه في حقهم إما بجهل أو بسبب ضغوط الحياة أو الإرهاق أو ثقل المسؤولية، كل ذلك ضاغط، وقد يكون عذراً، لكنه لا يخصهم في شيء، وليسوا مسؤولين عنه، لكنهم يتسامحون، ويظلون محتفظين بحبهم، وهذا يشعرني دوماً بالذنب».
من اللافت كذلك أن الغالبية العظمى من الأمهات يستخدمن أداة تأنيب الضمير مع الأبناء، يذكّرن هؤلاء بأفضالهن والتي يفترض أنها ليست بأفضال، هي واجبات طبيعية لإختيارهن إنجاب هؤلاء الأبناء. نُحمّل نحن أبناءنا متاعبنا النفسية ونتوقع منهم الصبر والتحمل بحجة أفضالنا هذه وبحجة الجنة الواقعة تحت أقدامنا وبحجة مراكزنا الأمومية التي تمنحنا حقوق الطاعة والتبجيل فقط لإتمامنا عملية الحمل والولادة. في الواقع لا يفترض أن تتحصل الأمومة على كل هذه الحقوق بشكل مباشر وغير مشروط، تتحصل الأمومة على الحقوق وعلى الإحترام والتبجيل حين نعمل نحن الأمهات على تشكيلها صفة رفيعة وعلاقة فاضلة أخلاقية إنسانية لا نحمّل من خلالها أطفالنا المنّة طوال الوقت، ولا نتوقع منهم السمع والطاعة لمجرد أننا قمنا بتنفيذ عملية بيولوجية لإستجلابهم لهذه الحياة، فنقسرهم تحت ثقل مفهوم «البر» على البقاء مكبلين بجانبنا، يخدموننا ويتحملوننا ويطيعوننا ويبقون عمرهم كله مكبلين بأفضالنا، أفضال، إن كانت كذلك، نحن من إختار، من دون طلب أو قيد أو شرط، تقديمها باتخاذنا قرار جلب هؤلاء الأبناء للحياة.
تنهي نجم مقالها قائلة: «لا أحد يتحدث عما نتعلمه من أبنائنا، عن محاولات تأديب النفس حتى نبدو في صورة لا بأس بها، عن ضرورة تقديم الاعتذار للإبن أو الإبنة حين نخطئ حتى نتمكن من تعليمهم الاعتذار عند الخطأ، علماً بأنهم يخطئون وهم يجهلون، ونحن نخطئ ونحن نعلم. «بكرا تخلفي وتعرفي».. آه والله خلفت وعرفت… عرفت أنني لا أحتاج لممارسة «عدة النصب» على أبنائي كي أحمّلهم فوق طاقتهم وأمارس عليهم سلطات ليست من حقي وأطالبهم بالوفاء بدين لم أدينهم به، وأنهم متسامحون بقدر تسامحي، ومحبون بقدر حبي، يعلمونني بقدر ما أعلمهم وربما أكثر. يؤدبونني بقدر ما أؤدبهم وربما أكثر. «لست ملاكاً».. أنا شخص يحاول جاهداً ألا يؤذي هذه الكائنات القصيرة الصغيرة صاحبة الصوت الحاد العالي قدر المستطاع. أحاول جاهدة ألا أحمّلهم أعباء مشاكلي وعقدي واختياراتي.. أفشل في أحيان كثيرة، وأشعر دوماً بالذنب». لربما يرى البعض التعابير قاسية، ولكنها في الواقع تعبّر عن حقيقة مع غالبية جيدة من الأمهات واللواتي كثيراً ما يمارسن «عدة النصب» هذه لإشعار الأبناء بتقصيرهم مما يؤسس لشعور «تأنيب الضمير» كرابط أساسي في العلاقات بينهم وبين هؤلاء الأبناء. نربط نحن أبناءنا بجانبنا بمشاعر المنّة وبالتذكير بالأفضال وحتى بالتهديد بالجنة، الجنة التي لا مدخل لها إلا أسفل أقدام الأمهات. أي عبء نضع على الأبناء وأي علاقة تأنيبية ثقيلة نخلق نحن بيننا وبينهم؟
الأمومة شعور رائع، لكنه ليس دائماً فطرياً، أحياناً هو مكتسب ويحتاج للكثير من الجهد والعمل لتحسينه. والبنوة ليست عبودية، تجعل من الأبناء أملاكاً نتحكم بها ونسيّرها ونتوقع منها السمع والطاعة الغير مشروطين مدى الحياة. يقول جبران خليل جبران «إن أولادكم ليسوا أولاداً لكم. إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم ولكن ليس منكم. ومع أنهم يعيشون معكم فهم ليسوا ملكاً لكم. أنتم تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم، ولكنكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم، لأن لهم أفكاراً خاصة بهم.
وفي طاقتكم أن تصنعوا المساكن لأجسادهم. ولكن نفوسهم لا تقطن في مساكنكم. فهي تقطن في مسكن الغد، الذي لا تستطيعون أن تزوروه ولا في أحلامكم». لنحرر أبناءنا ونطلقهم في الحياة من دون قيود الأفضال وأحمال المنّة وتأنيب الضمير، هذا واجبنا وبه تتحقق أرفع سمات الأمومة والأبوة. عيدكم سعيد مبارك.