كل عام وأنت بخير، خمسة وعشرون سنة، حياة طويلة، لحظة قصيرة، أمانٍ وآمال وأحلام ممتدة، أيام وليالٍ انطوت بطرفة عين، لا أدري أي التواصيف أصح، أدري أنها حياة، عشناها بامتدادها وبلحظيتها، بحقيقتها وبوهيميتها، بعمقها الروحي وبوجوديتها التي تسرق كل المعاني، عشناها بحقيقة قربنا وبهزلية وجودنا وبعدمية أرواحنا، عشناها كما لو أنها لن تنتهي، وكما لو أنها انتهت منذ زمن فعلقنا نحن في مداراتها الغبارية.
لا أفهم الجملة أعلاه، كتبتها لإضاحكك، فلطالما كان عشقي للفلسفة ونفورك منها محط لحظات ضاحكة بهيجة في حياتنا. خمسة وعشرون سنة يا رجل، قليلة هي على كرمك، بعدي لم أستغل كل ما لديك، لم أستهلك مخزونك من الحب والحلم والعطف والغفران. خمسة وعشرون سنة التصقت خلالها حياتانا، فما عدنا نعرف من يملك هذا ومن يملك ذاك، من بدأ هذا ومن أنهى ذاك، ما عدنا حتى نتذكر شخصياتنا المنفردة، اختلطت التفاصيل، وانفصلت الاختلافات، وتداخلت دقائق الأيام، هذه الأيام التي لا تمر الا على وقع مواقيتك، كل الحياة أصبح لها رتم واحد، متسق مع حركتك في الصحو والنوم، يدق دقا في قلبي، فيدفع فيه الحياة.
دع عنك، أدري أنك لست من فريق الرومانسيين، لذا، لست أخاطبك بكليشيهات الحب، انما أعترف لك بضعف خطير، أن حياتي تدق على وقع حياتك، وليس هذا بالشيء المريح. عند سفرك، أتكوم على أريكة المكتب طوال الليل، لا يدور طبخ في منزلنا، لا تنار أضواء الممرات ليلاً، لا يتخذ أي تصرف طابعا مستمرا ثابتا حتى تعود، فيعود الرتم الطبيعي، وأشهق بعد طول زفير. يغضب الأولاد من توقف الحياة عند مغادرتك، تزعجهم جملتي التي أكررها تبريرا لغياب اللقمة الحارة والحركة الطبيعية عن منزلنا أبان سفرك أن «أنا أحبكم لكن أباكم هو العمر»، لا يعتقدونني أما طبيعية، ولربما أنا لست كذلك، ولا أعرف كيف أكون. لا يفهم الأولاد أنهم، على مكانتهم، تفصيل آخر نتشارك فيه أنا وأنت، محطات رائعة أوقفني عندها رجل أروع منهم وأهم.
خمسة وعشرون سنة، فكرت كثيراً ما أهديك بعد مرورها؟ ماذا أهدي رجلاً أعطاني كل شيء ولديه من رضا النفس ورواق البال ما يغنيه عن كل شيء؟ لا تحضرني سوى تلك الهدية المؤلمة القيمة، لست أملك ما هو أكبر منها وأجمل، ماذا عن حريتك؟
أكاد أرى ضحكتك المعتادة ترتسم على وجهك تقابل بها جنون هذا الحوار، ولكن لحظة، ماذا لو؟ فكر معي، ماذا لو أن هذه المرأة الكاملة، نصفك الآخر الذي ادخره الزمن لك لنصف عمرك المقبل، الجميلة الجمال التام الذي يروقك، المتطبعة تحديداً بكل ما يرضيك ويسعدك، ماذا لو رماها القدر في طريقنا الآن؟ في عيد زواجنا الخامس والعشرين أهديك حريتك، أحررك وأعتق قلبك، أطمئنك، لن تتزلزل حيواتنا وان انفصلت، فأنا أفهم أن الدنيا كثيراً ما تقدم لك الإنسان الصحيح في الوقت المتأخر، إنسان كنت تتمنى لو أنك قابلته قبل زمن، لو أن لك من العمر المزيد لتقضيه معه، انه القدر، يلعب أحيانا دورا رهانيا شائكا، ولكن ما نملك نحن أمام قواه الجبارة وانطلاقته الخارقة؟
لربما أتت هي بكل ما تحمله أحلامك وأمانيك، لربما رغبت أنت أن تهديها خمسا وعشرين سنة لاحقة، فتنتقل من العيش في قصتي إلى قصتها، تعلق دشاديشك في دولابها، تضع مشطك وآلة حلاقتك على منضدتها. لا تنسى روايتك بجانب سريرك، تقرأ منها صفحة وتسقطها بعد أن يأخذك الوسن على مخدتها. تخابرها صباحا لتعلمها أنك فقط تطمئن عليها، تمازحها حول تسوقها وتعدد لها أسماء المحلات التي تفضلها بسخرية مداعبة لا تدري أنها تذيب قلبها وجداً وهياماً. ربما تقضي بعض الليالي تستمع منها لحكايات لا تنتهي، قصة هذه الصديقة، وحكاية هذه القريبة، نبش ونقد ينتهيان عادة بجملة «ما علينا، كل واحد حر» ثم وصلة من الضحك المتصل على هذا النم وما يصاحبه من تبرير. ستسامحها ان هي غضبت بلا سبب، ستشجعها ان هي انهزمت لأي سبب، ستقبل عن طيب خاطر خلطها لعملها العام بحياتكما الخاصة، ستغفر لها استقدامها لهذه القضية وهذا النشاط على ما عداهما في مسيرة أيامكما، ستتفهم أولوياتها حتى عندما لا يتفهمها أقرب المقربين إليها، وستحبها لأنها كما هي بعيوبها التي لا تنتهي وبمكابرتها التي لا ترتخي وبعنادها الذي لا يزول.
لربما سمحت لها أن تضع يدها في طبقك وأنت الرجل شديد النظافة حسيس آداب الطعام، لا شك أنك ستحب جهلها المعتق بالطرق وضياعها المستمر في الشوارع ورفضها القاطع لاستخدام جهاز الجي بي أس في سيارتها التي ستختارها أنت لها. لا بد أنك ستصبر على تخلفها الإلكتروني، ستغفر لها سؤالك المستمر عن كلمة السر على تلفونها والعنوان الجديد لإيميلها. أنت، لأنك أنت، ستفرغ مكاناً بجانبك لها، ستحبها، لأنك لا تعيش سوى مع من تحب ولا تحب سوى تلك التي تعيش معك، ستجعلها امرأة سعيدة، كل ذلك أنا متأكدة منه، ولكن يبقى سؤال لم أختبره بعد، هل ستنساني أنا، ماضيك؟
تلك كانت أصعب فقرة كتبتها في حياتي، عصرة قلب لا تعز عليك، هي كل ما أملك أن أهديك، فكرة حريتك، والتي يبدو مما كتبت أنني أناولها بيد وأسحبها بأخرى، أهديها وأضن بها وأنا أذكرك بي حتى لا ترى في الأخرى سواي، وكيف يمكنني غير ذلك؟ لربما لا تستخدم أنت هذه الحرية، ولربما يلعب القدر معي لعبته فتقبل عليها، كل ما أعرفه هو أنني عشت كثيراً وفرحت كثيراً ولا أعرف كيف أرد عليك تحيتك الحياتية هذه سوى بتحية تماثلها، بتحية الحرية. كل خمس وعشرين سنة وأنت بخير.