«لا تطفئوا الشمس»

يقول د على الوردي في كتابه مهزلة العقل البشري «فالحقيقة المطلقة غير موجودة وانْ هي وجدت فالعقل البشري لا يفهمها أو هو لا يريد ان يفهمها لانها لا تنفعه في الحياة. ان الإنسان في حاجة إلى الحقيقة النسبية التي تساعده على حل مشكلاته الراهنة. وكثيراً ما يكون الوهم أنفع له من الحقيقة المطلقة المعلقة في الفراغ» (179). وكما ان الحقائق المطلقة غير موجودة، فان الأحكام المطلقة غير ممكنة كذلك، فلا وجود لصواب مطلق أو خطأ مطلق، وحتى المبادئ والمثل والأخلاقيات هي متغيرة وهي بنات مكانها وزمانها. فمثلاً، كان مبدأ القناعة من أجمل المبادئ «البائدة» التي لربما لاقت حتفها مع دخول عصر النهضة، حيث تحول هذا المبدأ الإيجابي إلى صفة سلبية في إنسان اليوم. ففي حين كانت «القناعة كنز لا يفنى» في السابق، أصبح «من طلب العلا سهر الليالي» اليوم. تحول مفهوم القناعة من كونه إيجابية نفسية في الإنسان تمنع عنه الطمع وتجعله يستكين لظروف حياته إلى سلبية شخصية تخلق إنساناً كسولاً منعدم الطموح راضيا بما يأتيه دون سعي أو إصرار على التغيير.
ان أكثر المبادئ والمثل قوة وصموداً اليوم هي قابلة تماماً للانقلاب في تجاوب مع تغير ظروف حياة الإنسان ومتطلبات عصره وتطوره الفكري. فالمبادئ والمثل والصواب والخطأ والحقيقة والوهم هي جميعاً في الواقع نتاج رغبة الإنسان في البقاء، يصنعها الإنسان لتضمن استمراريته ويحورها ثم يحولها متى ما تغيرت ظروف بقائه. بلا شك، هناك تضحيات إنسانية تتعارض ومصالح المضحين، إلا انها لربما تعبر عن رغبة أعلى وأقوى في البقاء، بقاء الجنس الإنساني ككل وليس الفردي المنفصل، أو لربما هي لحظات ضعف إنسانية أمام ما يفوق المصلحة الشخصية وحتى الحياة أهمية أو يتفوق عليهما محبة في نفس المضحي. فالإنسان قد يضحي بنفسه من أجل وطنه، وحب الوطن بالمناسبة هو مبدأ حديث نسبياً، أتى مع التقسيم الحديث للأرض ولربما تأكد مع ظهور المفهوم الأحدث للجنسية، وفي تضحيته هذه رغبة أبعد في المحافظة على وجوده الجمعي وامتداده.
ولقد دار الفلاسفة بهذه الفكرة دورة كاملة، فهم بدأوا بالاعتقاد التام بالمبادئ والمثل، إلى الاعتقاد التام بانتفاء كل ثبات لهذه المفاهيم وإلى عدم وجود أي قاعدة ثابتة مشتركة للبشر جميعاً، ثم وصولاً إلى الاعتقاد بالزامية هذه القاعدة وبالتالي إلى وجود مجموعة من المبادئ الإنسانية الثابتة التي يمكن لكل البشر ان يتفقوا عليها. شخصياً، لا أعتقد بوجود مثل هذه القاعدة الثابتة، فالبشر يختلفون حتى فيما نعتقده من البديهيات الأخلاقية، ففي حين ان القتل يعد للكثير من البشر فعل إجرامي، هو كذلك فعل أخلاقي وبطولي للكثيرين الآخرين، والأمثلة تتعدد لربما بتعدد القيم التي يعتمدها البشر.
وعليه فنحن نحتاج كما قال الوردي إلى النسبية، نسبية المبادئ والمثل، نسبية الأخلاق ونسبية الحقيقة، فالمطلق منها غير موجود، وانْ وجد فهو فوق احتمال البشر. ويقال ان معظم المصابين بالاكتئاب أو الفصام أو غيرها من الأمراض النفسية المزمنة، هم هؤلاء البشر الذين واجهوا حقائق الحياة المطلقة التي تقود للعدم وبالتالي لشعور صارخ بانعدام كل معنى لحيواتهم. فمن الحقائق المطلقة مثلاُ التي لا يستطيع البشر مواجهتها هي حقيقة ان الحياة من الان فصاعداً ستتدهور كونياً، فالمجرات والكواكب في تباعد عن بعضها البعض، وقريباً، قرباً نسبياً بالمقياس الكوني، ستصبح السماء مظلمة لا نجم يظهر فيها ولا كوكب، وسيستمر الكون في التمدد ليذهب بمجرتنا لأعماق سحيقة داكنة، وستنطفئ الشمس وتنتهي معها كل حياة انْ لم يسبق انطفاؤها تلك المجرة المؤكد لها اصطدامها بالأرض بعد خمسة بلايين من السنوات. انه الفناء لا محالة، انه العدمية واللامعنى التامين لكل ما نفعله ونتصارع من أجله ونتقاتل حوله على هذه الأرض.
ولان هذا حكم الكون، ولانه ديدن الحياة، وحيث انه لا مفر من لقاء الفناء القريب، ولا مهرب من لحظة انتهاء الحياة التي سيشهدها بترويعها آخر بشر سيكونون على سطح الأرض، لابد لنا من صنع الحقائق المناسبة لحيواتنا، لابد لنا من صنع مفاهيم ترطب الحياة ومبادئ ومثل تعطي معنى لعدميتها ولاهدفيتها. ولاننا في العالم الشرق أوسطي نعيش حالة مصغرة من هذه الفوضى الكونية، لابد لنا من خلق حقائق جديدة ومبادئ جديدة نبني عليها مستقبل منطقتنا وشعوبها، حقائق ومبادئ غير تلك «التي كان عليها آباؤنا»، حقائق ومبادئ لا تنحني للعادات ولا تذل للتقاليد ولا تتكبل بالعيب والحرام المتوارثين، لابد من هذا الخلق الجديد قبل ان تنطفئ شمسنا أو تصدم بنا مجرة الحداثة لتلتهمنا غير مأسوف علينا.
٭ نسبة إلى رواية إحسان عبدالقدوس «لا تطفئ الشمس» التي هي، مثل بقية رواياته، خلقت وحررت وغيرت وصنعت الجديد من المفاهيم والمثل.