توفي طبيب الأمراض العصبية أوليفر ساكس قبل أيام قليلة تاركا خلفه تراثا علميا وأدبيا رائعا حيث اشتهر بكتاباته حول تجارب وحالات مرضاه، فكان أن ترجمت كتبه للغات عدة كما تحول الكثير منها لأعمال فنية سينمائية ومسرحية. من أشهر كتبه هو كتاب «Awakenings»الذي تحول لاحقا إلى أحد كلاسيكيات هوليوود السينمائية في فيلم يحمل الاسم ذاته من تمثيل روبرت دينيرو وروبن ويليامز. لم يتزوج ساكس، كما كان كتوما فيما يخص حياته الخاصة إلى أن كشف عن توجهاته المثلية في أواخر حياته. عندما تم تشخيصه مصابا بمرض السرطان في عينه اليمنى، كتب هــــو عن حالته في كتابه «The Mind’s Eye» كما أنه أعلن بنفسه، بعد تطور وانتشار المرض، المدة التي يقدر هو أنه سيحياها مؤكدا، نقلا عن ويكيبيديا، أنه «يريد ويتمنى في الوقت المتبقي لي أن أعمق صداقاتي، أودع هؤلاء الذين أحبهم، أكتب أكثر، أسافر اذا ما واتتني القوة، وأن أتوصل إلى مستويات جديدة من الفهم والتبصر».
أن تكون طبيبا عالما تماما بحقيقة حالتك، لا مجال لتخفيفها ولا لتجميل حقيقتها أو «تمويع» توقيت نهايتها، تلك ميزة عظيمة وهبة قاسية ومريعة في الوقت ذاته. فنحن كبشر نحيا ونستمر في هذه الحياة القاسية العدمية بطريقة التمويع والتحوير المستمرين. أرحم ما نقدمه لأنفسنا هو خداعنا لها، وهو أقسى ما نقدمه لأنفسنا في الوقت ذاته، الا أن هذا الخداع، هذا التخفيف والتجميل، هي جميعا ما تعيننا على الاستمرار في الحياة ومتابعة رحلتها بشيء من السلام، بأقل القليل منه.
ولكن عندما تأتي بنا الحياة أمام أحد هؤلاء العظماء الحقيقيين، أو عندما تأتي بهم أمامنا، هؤلاء القادرين على مواجهة حقيقة الحياة وعدميتها ولا هدفيتها وفي الوقت ذاته الاستمتاع بها وتقدير وقتهم المتاح فيها، فإن تلك التجربة بلا شك، ترغمنا ركوعا احتراما وإجلالا لألم لم يمنع صاحبه من مواجهة الحقيقة، والحقيقة لم تمنع صاحبها من التعامل الهين، الوقور، مع الألم.
ساكس كتب الكلمات التالية قبل وفاته بزمن قليل، وحدها تستحق أن تقرأ، من دون تعليق أو تمحيص، أختم بها مقالي، حيث يقول (الترجمة لي):
«لقد أصبحت مدركا بشكل متزايد، خلال السنوات العشر الأخيرة تقريبا، حالات الموت بين معاصريّ. إن جيلي في طريقه للخروج، حيث شعرت بكل موت وكأنه انقطاع مفاجئ، تمزيق لقطعة من نفسي. لن يكون هناك مثيل لنا عندما نغادر، ولكن لا يوجد مثيل لأي انسان، مطلقا. عندما يموت الناس، لا يمكن تعويضهم. هم يتركون حفرا غائرة لا يمكن ملؤها، فهذا هو القدر – قدر جيني وعصبي – لكل انسان لأن يكون فردا مميزا، لأن يجد طريقه الخاص به، لأن يحيا حياته الخاصة به، ولأن يموت موته الخاص به.
لا أستطيع التظاهر بأنني بلا مخاوف. إلا أن شعوري الطاغي هو بالامتنان. لقد أحببت وأحبني آخرون، لقد حصلت على الكثير كما وقدمت شيئا بالمقابل، لقد قرأت وسافرت وفكرت وكتبت. لقد مارست الحب مع الحياة، هذا الحب الخاص للكتاب والقراء.
فوق كل شيء، لقد كنت مخلوقا واعيا، حيوانا مفكرا، على هذا الكوكب الجميل، وهذا بحد ذاته كان ميزة ومغامرة عظيمتين».
ارقد بسلام أوليفر ساكس.