مشكلتي قديمة، لم أستطع ولا أدري إن كنت سأستطيع في يوم التغلب عليها، ومشكلتي معوقة، منعت عني تخطي الكثير من الحواجز والاستفادة من الكثير من الأفكار. مشكلتي تتلخص في أن أسلوب التحاور والتعامل عندي يجب كل ما عداه، أدب الحوار أهم، لياقة التعامل أرفع، كلاهما يتفوقان على القصة والقضية محل الحوار والتعامل. ليس هذا الحكم من الأسلوب بعادل أو مفيد، أعترف بذلك، فكثيرا ما أفقد أناسا أعزاء أو أحرم نفسي رسالة مهمة مفيدة بسبب أسلوب هؤلاء الأعزاء أو صياغة هذه الرسالة المهمة، يفوتني الكثير لربما وقد رفع الأسلوب سدا عاليا بيني وبين المتحدث، فلا أعود قادرة على الاستماع لمعنى حديثه أو تبين فوائده أو مغزاه.
لربما هذا الزمن ليس زمني، فأنا، برغم إيماني التام بأن السخرية والنقد القاسي بل والوقاحة كلها تدخل في باب حرية الرأي التي لا يجب أن تقمع أبدا، إلا أنني لا أستطيع تخطي اهتمامي الشخصي بأسلوب إيصال الرسالة وبمدى تأثير هذا الأسلوب على المتلقي وعلى قيمة الرسالة وتأثيرها. أشتاق اليوم لنموذج البطل المهذب الذي اختفى تقريبا تماما من على وسائل التواصل التي أصبحت تقدم نماذج أبطال جدد نوعا ما، أبطال قسوتهم هي علاماتهم الفارقة، بذاءتهم هي أسلحتهم الكلامية، شتائمهم هي مؤشر شجاعتهم وتصريحاتهم الماسة بالشرف والكرامة هي أدوات وصولهم للمجد والشهرة. لا أدري هل اللوم عليهم لتغييرهم أذواق الناس أو اللوم على الناس لخلق هذا الذوق والذي استغله أبطال اليوم للوصول. هل خلق هؤلاء الأبطال سوقا جديدة أم هم مجرد مروجين لما يعجب الناس في زمن أصبحت فيه الطيبة عبطا والأدب ضعفا وحسن الحوار جبنا لا يورد أي نتائج؟
أعرف وأقر بأهمية وجود هؤلاء، فكما يحتاج المجتمع «الكبار» هو يحتاج كذلك «لمهرجي شكسبير» هؤلاء الذين يقولون ما لا يستطيع غيرهم قوله، الذين يصرحون ببذاءة ووقاحة عن واقع الحال، فيجعلون الساسة يقفون على أطراف أصابعهم (كما يشير ديفيد بروكس في مقال مهم له في النيويورك تايمز) ويشكلون مصدر معلومات نميمي للشعب بأكمله بل ويرفعون سقف الحريات ويمرنون العامة على التحرر من عوائق الرأي، هؤلاء الذين يستفيد منهم المجتمع ولكن لا يحترمهم ولا يتبعهم، فالاحترام والقيادة مكفولين «للكبار» للمفكرين والنقاد الجادين المهذبين (للمزيد يمكن العودة لمقال بروكس بتأريخ 8 يناير/كانون الثاني 2015). هؤلاء النمامين الوقحين مهمين وموجودين دوما، إلا أنه لم يسبق لهم أن أخذوا دور القيادة بهذا القدر والصورة، لم يسبق لهم أن تحولوا الى مشاهير يقبضون الأموال لقاء وقاحتهم، لم يسبق لهم أن أُخذوا مأخذ جد، فأصبح لهم أتباع ومريدون. اليوم هؤلاء أصبحوا في المقدمة، يأخذون الناس بصراحتهم الوقحة التي تبدو ظاهريا وكأنها شجاعة، محولين الذوق العام بمجمله من ذاك المتأدب حسن الحوار رفيق التعامل الى آخر بذيء قاس لا يستنكر كل وسيلة للوصول الى المقدمة.
ولأن العامة تتأثر بالمشاهير، أصبح الأسلوب العام له هذا المذاق، حيث ساعدت الشاشات الإلكترونية الفاصلة بين البشر في رفع نسبة الجرأة والوقاحة، فالتعامل من خلال وسائل التواصل يأتي من خلف شاشات زجاجية تعفي الناس من المواجهة المباشرة التي عادة ما تفرض درجة من الاحترام والتأدب. وهكذا سادت القسوة وفرضت البذاءة نفسها وتحولت الشتائم الى طريقة حوار طبيعية، يستعملها ليس فقط الكثير من مشاهير وسائل التواصل الجدد ولكن كذلك الأشخاص العاديون المغمورون الراغبون في الوصول، والذين شهدوا كيف أن الوقاحة المتنكرة في زي الصراحة هي أسرع طرق الوصول.
كم أشتاق لصورة البطل النبيل المهذب، الذي تتجلى قوته وجرأته وتأثيره في عمله على أرض الواقع لا في قسوة كلماته وهبوط أسلوبه، هذا الذي في مواجهته لما يعتقده باطلا لا يحتاج لأن يشتم الآخر أو يضرب في شرفه أو سمعته أو يهينه أويقسو تصويبا على مكامن مواجعه. كم أشتاق للصورة المهذبة النبيلة الخلوقة التي باتت باهتة، تكاد تختفي يوما بعد يوم وكأنها شريط فيلم أبيض وأسود قديم أكله الزمن ومسحت صورته الأيام. أعلم أنني أخسر الكثير بمقاومتي الحوار مع هؤلاء، برفضي الاستماع لفحوى ما يقولون، فربما هناك حق كثير وسط هذه البذاءة، إلا أنني لا استطيع، فسرعان ما يرتفع سور هائل بيني وبين أصواتهم، سرعان ما تنسد أذناي وتنغلق مداخل قلبي ومخارجها، فتجدني وقد تحولت الى قطعة بلاستيكية عنيدة لا أسمع ولا أرى ولا أتكلم. أعلم أنني أخسر الكثير، وأنني على خطأ كبير وأنني يجب أن أجد الحقيقة وسط كل هذا الركام، ولكن البحث بين كلماتهم يزكم الأنوف، يخنق المساحة ويكتم الهواء، أحاول فلا أجــــدني سوى وأنا أتــــرك لهم الحوار بحقه وباطله، أبتعد وأنا أعــلم أنني أترك حقا كثــــيرا ورسائل مهمة، كلها غمرتها مياه الوقاحة الآسنة والقسوة اللزجة. أعرف أن حساسيتي مرتفعة وأن الحق يستدعي صبرا أكثر وأن في القسوة والوقاحة وحتى الشتائم حق كثير يستحق العناء بل واكتشافات مهمة عن نفسي وعن عيوبي تستحق التــــوقف، لكنني لا أستطيع، يرتفع الحائط سريعا ليرتطم الحوار بطوابيقه السميكة، وأقف أنا خلف السور ناعية الكثير الذي كان يمكن أن أفهمه لو أنني سامحت وهبطت من علياء الأسلوب الذي لربما لا تسمح به كل الظروف، لكنني أبقـــى لا أستطيع. لا أستطيع.