في كتاب الإسلام والعلمانية، موضوع المقال السابق، تحدث أوليفييه روا عن نقاط استشكالية في الحالة الفرنسية أجدها متقاربة جداً مع الوضع المصري، مع اختلاف الظروف والحيثيات.
يعتقد روا أن الأصولية الدينية هي في الواقع «تطور ينبغي إدارته إذا ما أريد البقاء في إطار الديمقراطية وإحترام حقوق الإنسان» (136)، وهو المنظور الذي يلاقي مقاومة شديدة جداً في مصر من حيث الرفض الحالي التام لتوجه الإخوان المسلمين وتخوينهم وخلق أقلية معزولة ومكروهة منهم. يؤكد روا أن الإصلاح الديني لا ينبغي أن يكون شرطاً من شروط القبول بالعلماينة «فكثير من المسلمين المحافظين جداً يتكيفون تماماً مع الدنيوة والعلمانية بإعادة صياغة إيمانهم بمفردات القيم أكثر من المعايير، على غرار المسيحية المحافظة» (142).
وعليه، يرى روا أن الإصلاح ليس شرطاً لشمل الأصوليين تحت منظومة الدولة المدنية، هم مواطنون شئنا أم أبينا، وينبغي التعامل معهم من خلال القانون كجزء من المنظومة الإجتماعية بل وكجزء من هُوية الدولة. إلا أن روا يعود ليؤكد أهمية الإصلاح الديني وحقيقة أن هذا الإصلاح يمهد الطريق لعلمانية ناجحة.
يرى روا أن التدين و«الدنيوة»، وهي المعنية بتحرير المجتمع، لا يتضاربان، بل إن التدين هو علامة على الدنيوة، فالتدين ما هو إلا منظومة فكرية يصيغها الإنسان ليتعايش من خلالها في مجتمعه.
إذا، يرى روا أن «اللامبالاة الدينية للغرب هي العنصر الإيجابي وليس إرادويتها في مجال الرقابة على الديني» (158)، واللامبالاة هنا أعتقدها ترمي إلى حقيقة أن الدين لم يعد مصدر شقاق أو صراع في الغرب، بل هو منظومة فكرية خاصة تحيطها مشاعر من اللامبالاة العامة تجعلها شأنا خاصا جدا لا يستحق الصراع المجتمعي العلني. وعليه فهو يرى ضرورة عدم الحكم على الآخرين حتى ولو انطبق عليهم تعريف الأصولية، فهو يرى أن المطلوب هو «احترام القانون والنظام العام وليس تكييف معتقداتهم مع القانون» (162)، وعليه يجب أن تبقى العلمانية أداة قانونية لا أيديولوجيا (163) وهي بذلك ستجمع الناس تحت مظلتها وستوحد المجتمع من دون أي عزل لأي من فئاته حتى الأصوليين منهم، حيث سينتهي هؤلاء للشعور أنهم، بأصوليتهم، جزء من هذا التكوين العلماني.
أعتقد أن هذه هي تحديدا المعضلة المصرية التي تتجلى في المحاولة المستمرة لعزل الإخوان المسلمين وإثبات خيانتهم والإصرار على عدم وجود أي مكان لهم في المنظومة المجتمعية والفكرية المصرية وكأنهم لا ينتمون لذلك المجتمع ولا يشكلون جزءا من مصريته.
من جهة أخرى، يرى روا «أن المبالغة في إظهار رموز الإنتماء الديني تتسق وتحول جماعة المؤمنين إلى أقلية» (117-118). فالدين، يقول روا يصبح «أكثر جاذبية كلما كان منفصلا عن كل سياق، ومتجاوزا الحدود الإقليمية، لا بل مجلوبا» (122). تطبيقا لهذه الفكرة على الحالة المصرية نجد أن مبالغة الإخوان المسلمين في إظهار رموز إنتمائهم سواء من حيث المظهر او الممارسة خلقت منهم أقلية، الجاذب فيها أنهم أصبحوا «منفصلين عن السياق»، مشكلين حالة ثورية، حالة معارضة، بل لربما حالة إنسانية تخرج خارج حدود الدولة إلى التدين الأصولي الخالص الذي لا سياق ولا قالب إجتماعي له. هنا، خلق الإخوان المسلمون من أنفسهم أقلية داخل بلدهم، لها جاذبيتها من حيث الإطار البطولي الثوري المعارض لها ولكن لها ثمنها من حيث العزل والإضطهاد كذلك. انطلاقا من هاتين الفكرتين، يضع روا المسؤولية على الطرفين: الدولة التي تفرض مفهوم الإصلاح مقابل الضم وبذلك ينطوي شرطها على القسر والقهر الدينيين، والمتدينين الذين يصنعون أقلية من أنفسهم بمبالغتهم في إظهار التدين صانعين حالة خاصة وسط العام من أنفسهم. ومع ذلك، فإن روا من خلال كتابه يضع المسؤولية الأكبر على الدولة التي عادة ما تتسبب هي، النموذج الفرنسي هو موضع بحث الكتاب، في عزل الأقلية الدينية وإشعارها أنها خارج المنظومة بسبب تدينها.
المسؤولية ذاتها، في رأيي، تقع على عاتق الدولة المصرية التي ما فتئت تبعد الإخوان المسلمين وتعاملهم معاملة الخونة والعملاء طالبة منهم خلع ثوب أيديولوجيتهم شرطا للقبول بدخولهم في منظومة الدولة، وهو «العري الفكري» الذي يرفضه الإخوان لحد الآن، وخصوصا في ظل عدم توافر ثوب أيديولوجي آخر بالنسبة لهم يحل محل الثوب المخلوع.
الدولة هي المسؤولة، فهي، بإمكاناتها وقدراتها، من يستطيع تفعيل التغيير وذلك من خلال تفعيل التفكير أولاً وقبل كل شيء متيحة مجالا من الحرية للإصلاح الديني، ومن خلال «لم الشمل» تحت مظلة سياسية تظلل الجميع بذات المقدار وعلى ذات المعيار.
أما القسر والقهر والعزل، فلن ينتج عنها إلا الإضطراب الذي سيقود حتما لما هو أسوأ، وهو الوضع الذي لم ولن تنجو منه حتى أفضل الديموقراطيات العالمية، والحالة الفرنسية هي خير مثال.
آخر شي:
في سياق منفصل، يشير روا لفكرة مثيرة هي: «إن تكاثر المساجد هو علامة على تفرق المسلمين بقدر ما هو تأكيد للهًوية» (147)، لذلك نقول لأصحاب الأيادي البيضاء، عليكم ببناء المدارس ودور العلم ويا حبذا دور الفن كذلك، فهذه سيكون لها دور فاعل وفارق عوضا عن بناء المسجد بعد المسجد بعد المسجد، فلا يمتلئ أي منها ولا يزيد تعددها سوى من تفرقة المتعبدين بينها.