بعد انتهاء تجمع شبابي جرى خلاله حديث شائق بيني وبين أفراده، نازعتني فكرة سوداء لئيمة وأنا التي تدّعي أن السواد لا يقترب منّي وأنا في محيط الشباب، فهؤلاء، حتى في غضباتهم وشطحاتهم الفكرية، دومًا ما يبثون في نفسي الأمل، ويبشرون بِغَدٍ أكثر تنورًا ومنطقية. كنا نتحدث عن المظاهر الثقافية السطحية والثقافية العميقة، كيف تتغير الأولى بسهولة ويسر، وكيف تقاوم الثانية بعنف وصلابة. اتفقنا جميعًا على أن من السهولة تغيير ملبسك مثلا لتتفرنج أو تتهند (من الهند) ولكن من الصعب جدًا مساءلة فكرتك حول مسألة ثقافية عميقة كقيمة الزواج أو كطبيعة الأدوار الجندرية في المجتمع. سألتهم عن سبب دفع المَهْر، تساءلت حول منطقية تقسيم العمل خارجيًا للرجل وداخليًا للمرأة، واجهتهم: ماذا لو كان دخل المرأة هو الأعلى، أليس من المنطقي أن تعمل هي و«يَقرُّ» زوجها لتربية الأولاد وإدارة شؤون البيت؟ كانت النظرات تخبرني أن أسئلتي غير معقولة، وكان لحن الأجوبة يتهمني بدرجة ما من الجنون. وعندما سألت لِمَ، قالوا لأنه كذلك، هو ما عرفناه وتعايشنا معه، هو المنطق والصواب، ولو لم يكن كذلك ما استمر مئات ولربما آلاف السنوات. قلت لهم؛ ها نحن نعود للمظاهر الثقافية العميقة التي تقولون بصعوبة ولكن بضرورة تغييرها، فكان الجواب نعم؛ لكن ليست المظاهر كلها، هناك أشياء منطقية لا تتغير. بقينا بعدها نلف في دائرة مغلقة، هم يصرون على منطقية المفاهيم وأنا أصر على أن الاعتقاد بالمنطقية هو أدعى للدفع بنا لمساءلة هذه المفاهيم «المحصلة حاصلًا.» كانت النتيجة أن لم ينجح أحد، بقينا كأننا قط يركض خلف ذيله، أنا ألتف حولهم وهم يلتفون حولي، حتى أنهكني الحوار وأتعبهم الغضب.
عندها خرجت بالفكرة السوداء؛ أن لربما لن يحدث تغيير حتى تحدث طفرة من نوع ما، لن نستطيع تغيير الناس كبارًا، التغيير لن يتحقق إلا مع الصغار، عندنا تتم البرمجة منذ الولادة، لا من خلال صراع نخوضه خلال سنوات الشباب والبلوغ وما بعد. إذا، إما أن هذا التطور سيكون دارويني البطؤ، أي أنه سيحتاج آلاف السنوات (التطور الدارويني يحتاج إلى ملايين السنوات، ولكن التشبيه هنا نسبي) ليتحقق، أو أن هذا التطور سيكون نتاج طفرة ما، حادث ما ينهي تأثير جيل ليأتي من بعده جيل صاف خالص غير مبرمج، جيل «على مية بيضة». استعذت بإنسانيتي من شر أفكاري، فأنا حتمًا لا أتمنى أن أشهد إبادة من أي نوع ولو كانت فكرية، لست آمل أن يتغير الناس كلهم بين ليلة وضحاها إلى مفاهيم الحرية والمدنية والمساواة، فالتشابه، ولو كان خيرًا طيبًا عالي القيم، يبقى تشابه، مريض بالحرمان من المختلف، عليل بهواء نسماته راكدة لا تتجدد. التشابه مخيف، مشهد اصطفاف أصحابه على سراط مستقيم يبدو كمشهد من فيلم رعب. أملي هو في الاختلاف في الواقع، مع الاتفاق على الحق في الاختلاف، مع إعطاء الفرصة في التفكير في هذا الاختلاف من دون الشعور بخيانة لدين أو تجرد من قيم وتقاليد.
كلما ناقشت ومجموعتي الجميلة شيئًا، إستشهدوا بالشرع، إقتبسوا من القرآن الكريم، أقول لهم ماذا لو حاولتم مَنطَق الحجة من دون استخدام أداة الشريعة التي تسد الحوار، فذكر الشريعة في النقاش هو كضغط الفلينة على فوهة الزجاجة، سرعان ما تسدها وتمنع أي سائل جديد يُصبُّ فيها، فيعدونني أنهم سيحاولون، ثم لا يلبثوا أن يعودوا للحجة ذاتها مقرّين بعجزهم وعجزنا جميعًا عن تجاوز دائرة الدين الأولى، التي هي دائرة أيديولوجية من عدة دوائر تحيط بنا وتمنعنا عن رؤية الموضوع من الخارج المحايد. إحداهن قالت لي، القرآن يقول، قلت لها وكيف ستمنطقين الموضوع لمسيحي، قالت، هو يعلم أن القرآن حق، هو يعلم أن الإسلام هو آخر الأديان وأن كلمته هي الأخيرة، قلت لها أخرجي خارج الدائرة، قالت ما أنا بخارجة، فخرجت أنا، وأنا أفكر أن ما كان هو نتيجة طوفان نوح التطهيري؟ ما الذي انتهي مع هذا الطوفان وما الذي بدأ بعده؟ وحيث أنني ما أنا سوى بشر لا أستطيع تقبل فكرة التطهير الأرضي الكامل، حيث أفضل التعايش مع كل الطيب والسيئ عوضًا عن زواله كله في لحظة، فقط قررت أن أنتظر التطور الدارويني، وأن أستمر في مراقبته على مدى آلاف السنوات، وأنا طور التحول إلى شجرة أو حبة رمل أو ربما نقطة نفط.