كتبت وأنا أعلم أن كلماتي سترتد الي وهي حسيرة، وأن دوامتنا التي ندور فيها نحن نطعم دورانها ونغذيه بجرينا في أماكننا. كتبت في مقالي السابق أدفع بالعلمانية على أنها الحل الأوحد لتشرذمنا الطائفي وصراعاتنا السياسية الأهلية، وفي ذات قلب المقال، كتبت أن الحجة التي يسوقها الكثيرون من «أن العلمانية غربية الأسلاف» هي حجة لم يعد لها معنى ولا وزن، وأن العلمانية، وإن كانت قادمة من الفضاء الخارجي تبقى هي الحل الانساني الحالي الوحيد. بعدها توالت ردود فعل الأصدقاء والقراء بتواصل خاص أو عام لتسوق ذات الحجة التي توقعت أنهم سيسوقونها: العلمانية نتاج غربي، فتباً لكل منتوج غربي ولو فيه خلاصنا.
غير مهم أننا لا نأكل ونشرب ونركب ونتواصل ونلبس ونسمع ونرى ونتنفس المنتوجات الغربية فقط بل وحتى ما نأكله ونشربه نفرغه في مصنوع غربي، غير مهم هذا الاعتماد الجنيني على رحم الغرب، المهم أن لا نأخذ منهم العلمانية، فهي، بخلاف كل ما سبق، رجس من عمل الشيطان.
لقد نجحت نبوءتي، وأخبرني قرائي بما قلت لهم أنهم سيخبرونني به، ولا أدري إن كان ذلك بسبب من حاستي السادسة أم بسبب أننا نحارب خلاصنا ومنذ سنوات بالمنطق ذاته، نعيد الجدل نفسه ونزيده، تموت الناس وتتدهور الأحوال وتتكاثر الأهوال ونحن نطحن ذات الكلام: العلمانية على مقاس الغرب، أما نحن بقوامنا الممتلئ وطولنا الفارع وسمرتنا الداكنة، نحتاج موديلا مختلفا تماماً.
المثير في الأمر أن أحداً لم يخبرنا الى اليوم عن الموديل اللائق بأجسادنا العربية، ومن يحاول ويتفلسف ويتمنطق، يخرج بشيء هو ذاته بروح الفكرة العلمانية، المهم، مثلما قال صديق لي بعد أن توصل الى أن الحل هو في فصل السياسة عن الدين، أن لا نسميها علمانية، نسميها أي شي آخر، وساعتها ستأتي على مقاسنا، وستصبح أكثر تواؤماً مع عاداتنا وتقاليدنا. نغير «الليبل» على ياقة الفستان، وساعتها ينهمر محترماً على الجسد العربي ويصبح أكثر توافقاً مع محافظته وخصوصيته.
ولكن، ما لا يستوعبه العقل العربي، وهو الذي تعود أن يقسم أكثر مما يجمع، هو أن الفكرة، أي فكرة، هي نتاج معاناة انسانية طويلة وفلسفة عامة يتشارك فيها البشر في كل مكان وعلى مرور الأزمان. يقول فرح أنطون في كتابه «ابن رشد وفلسفته»: إن «فكر البشر بمثابة فضاء لا نهاية له تتراوح فيه كل النسمات التي تحرك أمواج هوائه.
فإذا لم تصل هذه الأمواج بهذه الواسطة وصلت بتلك اذ ليس في استطاعة أحد أن يوقف وصولها الى الحد الذي رسمته له اليد الأزلية بالأسباب الأزلية التي تدير النظام الأزلي» (141). وعلى ذكر ابن رشد، لابد من الاشارة الى أنه في الواقع أحد مؤسسي الفكر العلماني في الوقت الذي كانت تربض فيه أوروبا تحت نيران صراعاتها الدينية، فكان أعداؤه من القديسين الأوروبيين كثر بسبب ما يروج له من فكر فلسفي عميق خصوصاً فيما يتعلق بتساوي الأديان كطرائق مختلفة الى الله، وتلك إحدى الركائز التي بدأت عليها الفلسفة العلمانية لتصل لفكرة «المادية أو الدنيوية الخالصة» وذلك قبل أن تتحول لفلسفات تطبيقية مختلفة.
اذن، لربما كانت بداية العلمانية الحقة عربية المنشأ اسلامية الفلسفة، فهل سيرضى عنها عندئذ ناقدوها، ويفتحون لها باب التنفيذ لنوقف بها ومعها أنهار الدم الجارية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها؟ وبغض النظر عن منشئها وأصولها، هل من حل آخر سوى تفريق الديني عن السياسي، مع حماية حقوق الجميع كاملة، المتدين وغير المتدين ، وتغليب الحكم المدني ليساوي بين الجميع ويقف على مسافة واحدة منهم، هل من حل آخر غير هذا لتقفل صنابير الدم في عالمنا؟ ليس هذا المقال ليشرح مبادئ العلمانية ولا ليعدد مناقبها، فتلك نتذوقها كل يوم سواء في زياراتنا السياحية لبلدان الغرب العلمانية أو في هجراتنا إليها، حيث في الحالتين نتلقى أفضل من أفضل معاملة في أسلم من أسلم دولة في شرقنا، حيث نتنفس الحرية فقط عندما نخرج من زنازين دولنا الدينية. ولكن هذا المقال يقول أن العلمانية نتاج فكر انساني طويل مشترك لا فضل فيه لأحد على أحد، وأنها حالياً هي الحل الأوحد والأمثل وذلك حتى إشعار آخر يأتي فيه فيلسوف جديد بحل جديد.
فهلا تواضعنا بعض الشيء ونحن الذين حتى أنوفنا نمخطها بمناشف غربية فلننظر في عمق الفلسفة العلمانية بدلاً من أصولها، في فعاليتها بدلاً من بحثنا وراء أصلها وفصلها ومن هم أخوالها وأعمامها، وهل هي «بنت حمايل» أم دائرة على حل شعرها فنحل بوصالنا بها مشاكلنا وننهي ضياعنا؟ ليست من مقامكم، طيب اعقدوا عليها عرفي وانظروا في سلوكها، أم أن العرفي (والمسيار والمسفار وزواج الصغيرات) الحلال والعربي المنشأ لا يتنازل وينظر للعلمانية «الأجنبية الكافرة» بطرف عينه؟