ينتصر الشر علينا في كل مرة، يغلبنا العنف وتحطم الجهالة كل منطق له أن يزن تصرفاتنا وتوجهاتنا. لا أدري كيف يمكن لأمة في القرن الواحد والعشرين أن تبتهج لحرب وأن تحتفل بمظاهرها. كيف يمكن أن نفخر بوحدة عسكرية وانتصار سلاحي وضحاياهما بشر مثلنا، بل دمائهم وأصولهم هي دمائنا وأصولنا على ما ندعي ونفاخر، وأغلبهم من الأطفال الذين لا حول لهم ولا قوة. كيف لا زلنا، وإلى هذا الزمن والعصر، نرى في العنف حلاً وفي القتل فخراً وفي الحرب عزة؟ إنها قبلية عربية تغلفنا من الخليج إلى المحيط.
عندما أُعدم صدام حسين مغتصب بلدي، وبحكم موقفي كناشطة في حقوق الإنسان وكبشر كذلك، لم أوافق على إعدامه ولم أقبل بعرض مشاهد قتله، وعندما قُتل أسامة بن لادن ورميت جثته في البحر لم تجد البهجة المعجونة بالدماء للقلب سبيلا، وكتبت أعيب على الفرحين شماتتهم في الموتى ولو كانوا أعتى الظلمة والجناة، وعند الحديث حول التخلص من الإخوان المسلمين وضرب الدواعش لم يجد القبول طريقه للضمير ولو للحظة، فكيف لنا أن نقضي على العنف بالعنف؟ كيف لنا أن نوقف القتل بالمزيد من القتل؟ في داخلي إيمان تام بوجود حل آخر، دائماً هناك حل آخر.
والحل الآخر هذا لا يتأتى تحديداً انطلاقاً من الرحمة بالجناة، فلو تركت نفسي على سجيتها، لرغبت في تقطيع صدام حسين بأسناني، ليس فقط على ما ارتكب في حق بلدي، بل من أجل كل جثة امرأة ورجل وطفل عراقيين جمعها ورماها بوحشية في مقابره الجماعية، ولكنني لا أسمح لنفسي بهذا الشعور رحمة بي، رحمة بالأحياء من حولي، فالموتى موتى، غادرونا وانتهوا من الحياة، إنما خياراتنا العنيفة تؤثر علينا نحن الأحياء، تصيغنا مخلوقات بدائية متوحشة رابضة عند نزعاتها، مستسلمة لشهواتها الانتقامية.
وحتى عند من يرى الحرب شراً لا بد منه، ومن يرى أن العنف حل لا بد من اللجوء اليه، فلم هذه المشاعر الاحتفالية تجاه مواقف تستحق الحزن والرثاء؟ ان كان لا بد من قتل بن لادن على سبيل المثال، فلم احتفل المحتفلون في هذه الأمة المنكوبة في منطقها ومشاعرها؟ الا نحزن على الأقل على مجتمعاتنا التي حولت طفلاً بريئاً كانه ذات يوم إلى رجل متوحش يعيش في القفار ويؤمن بالقتل وسيلة فرض كلمة الرب على الأرض؟ ألا نخجل ما صنعت أيادينا؟ وإن كنا لا نحزن، كيف يمكن أن نفرح لموت؟ أننا أمة تجد في إخفاء المشكلة تحت رداء الردى كل حل لمشاكلها.
اليوم يموت الحوثيون، أطفالهم قبل كبارهم، والناس ترقص على طائفيتها «وحدة ونص» ما بين مؤيد لحرب يعتقدها تواجه التدخل «الصفوي» في البلدان العربية إلى مخالف لحرب يعتقدها موجهه ضد الطائفة الشيعية بحد ذاتها. ذات الحوار السمج المريض الذي ان دل فإنه يدل على أمراضنا النفسية قبل أي مشاكل خارجية يمكنها أن تعوق «تطورنا» الذي هو ضرب من خيال. ما كانت إيران تتدخل في المنطقة لولا أن فتحنا لها نحن الثغرات على مصراعيها، فانتهكنا حقوق مواطنينا، وتخندقنا في تقسيمات وتحزبات طائفية أصولية مريضة، رمت كل مؤسساتنا المدنية بمقتل، حتى ما عاد الفرد منا يصدق أن الدولة، دون طائفته أو أسرته أو قبيلته، يمكنها أن تحميه وتحفظ حقوقه. ما كانت أمريكا تضخ أموالها في ليبيا وفرنسا في سوريا وغيرهم وغيرهم لو أننا كنا شعوبا محترمة، تقدس الحياة الانسانية فلا تعرفها بدينها ولا تقيمها بانتمائها ولا تستخف بها وتستهين مهما سكنت هذه الحياة من عقول تافهة منحرفة. لو أننا احترمنا إنساننا مهما كانت أخطاؤه بل جرائمه، لما استطاعت «التدخلات الخارجية» التي علكها الناس ولاكوها ثم ابتلعوها ثم أعادوا اجترارها ولاكوها من جديد وابتلعوها كسبب وشماعة لكل مشاكلنا، أقول لما استطاعت هذه التدخلات أن تجد لها في دولنا سبيلاً.
يموت السوريون ونحن ندبك، يموت الحوثيون ونحن ندبك، يمون العراقيون ونحن ندبك، يموت الليبيون ونحن ندبك، هنا شيعة، هنا سنة، نتشابك بالأيدي، نتقاذف السباب والبصقات، نشد الشعور ونسدد اللكمات، ثم نصرخ، إنها إيران، إنها ايران. لربما هي إيران، تلوح بالوشاح الأحمر لتتراكض وتتصادم الثيران.