لربما أكون قد بدأت ترتيب مقالاتي ترتيباً معكوساً، فتحدثت عن العلمانية كحل قبل أن أعرفها، حيث اعتقدت أن المفهوم ما عاد يحتاج لتعريف وأنه تجاوز «الكليشيهات» والمفاهيم الخاطئة التكفيرية القديمة، الا أن ذلك لا يبدو صحيحاً، ونزولاً عند أوامر بعض القراء من المتواصلين، أثلث المقالات وأختمها بما كان يجب أن أبدأ به، عل «الثالثة تكون ثابتة» فأستطيع أن أحيد عن العلمانية، في الكتابة فقط، الى غيرها من المواضيع.
للكاتب الكويتي فاخر السلطان، أحد أهم الكتاب التنويريين في الكويت، كتيب صغير يشرح العلمانية بشكل متعمق، أشير اليه في عرضي المبسط هنا. يقول السلطان «إن العلمانية لا تعني فحسب فصل الدين عن السياسة، بل ذلك ليس سوى نتيجة من نتائجها، إنما هي تستند الى علاقة وطيدة مع عالم الطبيعة والمادة، وتبتعد ما أمكن عن عالم ما بعد الطبيعة. هي توصي بعدم الإشارة الى دور الدين في القضايا المتعلقة بالحياة البشرية الطبيعية، لأنها تعتبر الدين أحد عناصر ما بعد الطبيعة. بمعنى تأكيدها على إبعاد دور الدين عن الشأن العام الطبيعي، عن السياسة والاقتصاد والتعليم وغيره من المسائل» (6). اذن فمفهوم العلمانية لا ينحصر في فصل الدين عن السياسة وما يتبع ذلك من اعتقاد خاطئ بأن ذلك يرمي لفصل الدين عن المجتمع. العلمانية، بأصليها اللغويين من كلمة عِلم ومن كلمة عالم، ترمي الى القرارات التي يتخذها الإنسان على أساس دنيوي، ناظراً في ظروف دنياه ليتخذ قراره دون عودة للغيبيات. ان أهم تطورات العصور الحديثة، كما يقول السلطان هو بروز «العقلانية وحقوق الإنسان، فمفكروا الحداثة اعتمدوا على أسس غير دينية في تفسير الأخلاق، وعلى هذا الأساس أصبحت الأخلاق علمانية» (6).
سياسياً، تشير العلمانية الى حالة التشريع في الدولة التي ترتكز على القوانين الوضعية دون العودة للتشريع الديني، ولا تشير بأي حال من الأحوال الى إلغاء الدين أو فصله عن المجتمع، وهو المفهوم الخاطئ الذي ينشره أعداء الفكر العلماني. ففي الواقع، ليس هناك من سبيل لفصل الدين عن المجتمع، فالأغلبية العظمى من المجتمعات البشرية تقوم على دين ما، بل ويشير علماء الإنسان الى أن التطلع للأديان والغيبيات لربما يعبر عن حالة جينية، أي أن الحاجة للإيمان لربما تكون جزءا من تركيبتنا الكيميائية ونتاج طبيعي لمسار تطورنا عبر ملايين السنين. لذا، ليس هناك أي منطق في محاول فصل الدين أو إلغائه من المجتمع، إنما تهدف العلمانية الى فصله عن الحالة السياسية والتشريع القانوني وذلك لسبب بسيط وواضح، حتى لا يشعر أصحاب الأديان المختلفة بالإضطهاد، ولتقف الدولة على بعد واحد من الجميع. ومن يدعي أن الحاجة للعلمانية تنتفي تحت مظلة الدين الاسلامي، نذكره أن التشريع يطلب الجزية من غير المسلم، ويفرض عليه تشريعات علنية كالزكاة والصيام وغيرها، ويدعو لفرض عقوبات اسلامية لا تمت لغير المسلمين بصلة. وهذه حال كل الأديان، لها خصوصية لا يمكن معها شمل الآخرين تحت مظلتها.
إلا أن النقطة الغاية في الأهمية هي أن العلمانية دون ليبرالية حقيقية تنقلب الى ديكتاتورية، ولقد تأسست لدينا أنماط عدة رسخت مخاوف الناس على هذا الأساس. فمعظم الأنظمة العربية التي ادعت علمانيتها، كانت في الواقع ديكتاتورية لا تحترم اختلافات الناس ولا توفر لهم «الخدمات» والحريات الدينية التي هي حقوق أصيلة لهم. فالنموذج السوري أو المصري أو التونسي السابقين، لا يمتون للعلمانية السياسية الحديثة بصلة، وهي التي لا تقوم قائمتها دون الارتكاز على مفاهيم الحرية وحقوق الانسان وإلا تنقلب الى ديكتاتورية وشمولية تعودان بالزمن مئات السنوات للخلف. وحتى النموذج الفرنسي الحالي، الذي أسس في السابق للقاعدة العلمانية، يعاني من مشاكل عدة خصوصاً فيما يتعلق بمنع المظاهر الدينية، وهو منع يتعدى على حريات الناس وحقوقهم. ولكن بالمجمل، هناك أنماط علمانية غربية رائعة يمكن النظر اليها على اعتبار أن «الغرب أصبح يعيش راهنا في ظل دين لا يحتكر الحقيقة، وعلم لا يتسلط على الدين أو يسعى الى إلغائه» (السلطان، 11) وتلك هي المعادلة المطلوبة.
العلمانية ما هي إلا أداة، وسيلة لتنظيم الحياة الدنيوية ولتقنين العلاقة بين السياسي والديني لا لقمع أحدهما بتأثير من الآخر، فالعلمانية تؤسس لفكرة المواطنة الغير مستندة على أي مفاهيم غابرة من وحدة عرق أو أصل أو دين، إنما هي وحدة الموقع الجغرافي (وحتى تلك هي موقع نقاش الآن) والمصالح المشتركة، وعليه فإن العلمانية «تصبح شرطاً لابد منه للإنتقال من دولة الأديان الى دولة الأوطان، ومن دولة المتدينين الى دولة المواطنين» (18). في ظل العلمانية يتحرر الدين من الأطماع السياسية وتتحرر السياسة من السيطرة والطموح الديني، في ظل العلمانية يتساوى البشر أمام الدولة الحديثة، وتبنى علاقاتهم على أساس من حقوق الإنسان الحديثة التي تستشكل على معظم الأديان. إن العلمانية اليوم ليست اختياراً، بل هي حاجة ملحة للخروج من الحروب الدينية الغابرة التي لا تزال تعيشها منطقتنا الى الآن، وما فشلنا في تحقيق علمانية كاملة الا موعَزاً لغياب الحريات الحقيقية ومبادئ حقوق الانسان، فتجدنا نستبدل ديكتاتورية عسكرية بأخرى دينية ونضيع «رقصتنا»، حتى ليبدو لنا الوضع مستحيل وكل الحلول فاشلة.
«العلماني هو الشخص الذي يتعاطى مع الظرف الحالي» (95) يقول عبدالكريم سروش في كتابه «التراث والعلمانية»، و»العلمانية في المصطلحات المعــــرفية والعــقلانية في الغرب تعني أن الشخص يعيش هذا الزمان وهذا العصر وهذه المرتبة من الوجود الحال» (96)، فإذا ما تركنا أوهام وأحلام الماضي، وارتكزنا على المنطق والمفاهيم الحقوقية، لربما استطعنا أن نمسك بالمفهوم العلماني ولربما أنقذنا أنفسنا.