لا شيء فضحنا كما فضحتنا مآسي سوريا والبحرين واليمن، لا شيء أظهر الطائفية المتجذرة عميقاً في نفوسنا كما مساطرنا المختلفة في قياس أحداث هذه الدول الثلاث تحديداً. فمن يبكي على ثوار سوريا يلعن «إرهابيي» البحرين واليمن، ومن يهتف بالنضال البحريني يصب جام غضبه على «إرهابيي» سوريا، هكذا يتحول الثائر الى إرهابي والإرهابي الى ثائر حسب موضع اليد، أترفعها أثناء الصلاة الى بطنك أم ترسلها على جنبيك.
وهذه الأحداث أظهرت جانباً انتقائياً عجيباً في عقولنا الإنسانية، فهناك من «يختار» أن يرى في الصحافة صوراً لإرهابيي داعش يملأون شوارع حلب ودرعا وألا يرى صور الأطفال القتلى، ألا يميز صورة إيلان على الشاطئ التركي نائماً نومته الأخيرة والموجة الرقيقة تمر أسفل خده الناعم، أو صورة عمران جالساً في سيارة الإسعاف غائباً بهول رعبه عن الدنيا ومآسيها، يقف هذا «البشر» في زاوية واحدة من القصة، يرى كارثيتها من ذاك الطرف الأوحد والذي من زاويته تظهر فقط ربع الصورة المبتورة أصلاً.
ثم يأتي زميله في البشرية «ليختار» مشهداً آخر وقوفاً في الزاوية المعاكسة، فتجده غير قادر على رؤية أطفال اليمن، قتلى وجوعى ومحاصرين، غير مستوعب مأساة البحرين، غير متمكن سوى من رؤية إيران، وحش فارسي أسطوري قديم مرسوم من زاوية ضيقة للمشهد الكارثي على وجه كل طفل يمني، وجه كل ثائر بحريني، فما عاد ممكناً رؤية سوى وجهه المخيف الدميم.
أدرك أن الحقيقة، على بساطتها ومنطقيتها أحياناً، صعبة التصديق، أعلم تماماً أن الإعلام العربي لا يزال يمارس التعتيم النازي القديم، يحور الحقائق بشكل ساذج ويغير زوايا القصص بشكل فاحش حتى لتتعذر الرؤية سوى من عين واحدة ومن خلال زاوية ضيقة. كل إعلام في الواقع يأتي هذه الآثام، الا أن إعلامنا العربي لا يزال على «ما كان عليه آباؤنا»، غير قادر حتى على مواكبة الأساليب الحديثة في النصب والاحتيال الإعلاميين.
وفي حين أن الإعلام الغربي دائماً ما تتوفر فيه منافذ صادقة، عندنا الظلمة حالكة، حيث بالكاد يبدو أن هناك مصدراً إعلامياً يستحق الثقة. ومع ذلك، يصدق الناس، أو يختاروا أن يصدقوا، لربما لأن التصديق أسهل، لربما لأنه أريح، لربما لأنه أكثر وئاماً مع العقيدة، ومن أجل العقيدة ننحر الحقيقة، كلنا نمارس التقية، كلنا نلعنها ثم نأتيها، كم نحن أشقياء.
أحاول من كم يوم أن أرى قصة إعدام الشباب الثلاثة في البحرين من كل الزوايا، إلا أن الظلام دامس، وددت أن أعرف شيئاً من مصدر موثوق حتى أكتب أو أغرد في تويتر، لا شيء، لا شيء سوى أنهم شهداء تارة أو إرهابيون تارة أخرى، وتبقى حقيقة أن ثلاثة شباب قد أعدموا رمياً بالرصاص في القرن الواحد والعشرين دون أن يفهم العالم، دون أن يرى «الأقربون» الصورة التي يفترض أن تكون الأوضح بالنسبة لهم.
نحن مساكين، لا أحد فينا يقف أمام الشاشة كاملة، نتناثر نحن في الزوايا، نقف فيها مختبئين مصطفين، يضحك العالم وهو يرى الصورة كاملة، ونشمت نحن في بعضنا البعض بأرباع الصور. لكل شماعته، هي إيران، هي إسرائيل، هو حزب الله، هو النظام السوري، نعتقدنا نرى كل شيء ونحن في الواقع لا نرى شيئاً، لا نرى سوى زاوية رفيعة كاذبة حوصرنا فيها برضانا، بمذاهبنا وانتماءاتنا وأفكارنا الموروثة البائدة. نحن الزوايا والزوايا نحن، مجرد نقط توصل الأضلاع، نقط تنفذ أجندة الأضلاع، نقط محصورة بين هذه الأضلاع لن ترى النور في يوم، نحن الحزن والحزن نحن.