كلما انفجرت أزمة أخلاقية في محيطنا العربي الإسلامي، يحضرني مباشرة التناقض الذي نعيشه بين مجتمعات غارقة في المحافظة، وفي الوقت ذاته غارقة في أنواع الفساد المختلفة، ويبدو أحيانا أن هناك علاقة طردية غريبة وغير منطقية بين المحافظة والفساد، من حيث إنه كلما تشدد مجتمع ما وارتفعت نسبة تدينه ارتفعت نسبة الفساد والممارسات اللامبدئية فيه.
تبدو هذه المعادلة غريبة، ذلك أن المنطق يقول إن العلاقة بين الفساد والتدين يفترض أن تكون عكسية؛ فالورع يفترض أنه يرقق القلب ويرسخ القيم الأخلاقية، كما أن الإيمان بنظام إثابي عقابي متمثل بجنة بنعيمها اللامحدود ونار بعذابها اللامتخيل يفترض أن يزرع خوفا عميقا في نفس المتدين يمنعه تماما من الإقدام على المخالفات البسيطة، «دع عنك الكبائر الأخلاقية».
ما هو يا ترى سر هذه العلاقة الطردية إذن، في مجتمعاتنا تحديدا، بين المحافظة والفساد؟ إحدى النظريات تقول بأن للعقل البشري قدرة عجيبة انتقائية عند التعامل مع مفردات الحياة اليومية، قدرة تمكنه من تبرير اشتياقه لأمر ما عن طريق بناء سد بين نفسه وتناقضاتها إلى حد إصابته بالعمى الكامل تجاه هذه التناقضات. في إحدى دوراتنا الانتخابية، إحدى اللواتي أعرفهن قررت مساندة قريب لها يخوض الانتخابات، سألتها: أتعلمين بعدم صلاحه للمهمة؟ أجابت: نعم، ولكنه يبقى قريبي، قلت ألا تخافين الله في هذا التصويت؟ وكان الرد حرفيا هو «وما علاقة الله بالموضوع؟» بدا ردها صادقا وتلقائيا، حيث قطع عقلها كل الصلات بين فعلها المنتوى وقيمته الأخلاقية وتقييمه الإلهي اللاحق، فبدا أن مهمة الخالق محتكرة بالنسبة لها على تقييم العبادات، «مدى إخلاص صلاتها أو صحة وضوئها»، أما في ممارسات الحياة السياسية مثلا، فلم يكن للخالق دور واضح أو دخل مباشر.
النظرية الأخرى تقول إن التدين عادة ما يصنع غلافا وقائيا حول الفرد يشعره بالأمان والفوقية، الأمان من حيث أنه ينتمي لمنظومة ستحميه مهما كبرت أخطاؤه، فمرده للجنة ونعيمها إن هو التزم بقاءه في المنظومة الدينية حتى ولو بعد فترة من العقاب، أما الفوقية فمن حيث شعوره بالانتماء «للفرقة الناجية» أو لجماعة الحقيقة الخالصة، فهذا الانتماء يضعه مباشرة على طريق الحق الأوحد الذي ينعش شعوره بالفوقية الأخلاقية تجاه كل الآخرين. هذه الفوقية ستسهل تبرير الأخطاء وإيجاد مخارج لها، حيث تتوالى الفتاوى والآراء الدينية التي توجد التبريرات والمخارج لهذا الشخص لضمان انتمائه ولتسهيل حياته ولإشعاره بالخصوصية والتميز الدنيوي كذلك. الفتاوى التبريرية والتسهيلية عندنا هي خير مثال، ولربما أوضح الأمثلة يتركز في زواجات «الفريند»، والمتعة، والعرفي، التي تصبغ العلاقات خارج الزواج التقليدي بصبغة الشرعية وتفتح الباب على متسعه للرجل لممارسة رغباته، ما يسهل حياته ويبرر رغباته، ويضفي عليه خصوصية ويشعره بالفوقية (بسبب هذه الحقوق المكتسبة) فقط بسبب انتمائه الديني! أتذكر كذلك البزوغ القوي قبل سنوات للفتاوى التي تحلل السرقة من «الكفار» والتي بررت للآلاف من الشباب العربي الهروب من أمريكا وأوروبا دون تسديد مديونياتهم على بطاقاتهم الائتمانية بواعز من أحقيتهم وفوقيتهم كمسلمين على غيرهم من «النصارى والكفار».
بالطبع، ليست المشكلة في المنظومة الدينية، فهناك مجتمعات متدينة لا تعاني من هذا الفصام الأخلاقي الذي نعانيه، إلا أن الشعور بالفوقية وبالانتماء للفرقة الناجية يمكن أن يكونا عاملين مؤثرين، من ضمن عوامل أخرى كثيرة، في تبرير الأخطاء وتسهيل سبل الفساد. أعتقد أن الظروف السياسية والصعوبات الحياتية وضعف المنظومة الحقوقية عندنا في العالم العربي الإسلامي دوافع تدفع الإنسان لاستخدام تدينه لتبرير أخطائه، خالقة هذه العلاقة الطردية بين المحافظة والتشدد والفساد، وهي ذاتها التي تقوي قدراته الانتقائية التي تضع حواجز ضخمة بين الأخطاء واستشعارها، ثم الخوف من أدائها.
من الضروري جدا، محافظة على صحة المجتمع وصحة المنظومة الدينية، استعادة العلاقة العكسية الصحية بين التدين والفساد، إلا أنه وفي ظل ظروفنا العسيرة الحالية ستكون المهمة صعبة، إذ أصبح الاستغلال أسلوب بقاء على قيد الحياة، وأصبحت بعض صور التردي القيمي وسائل تنفيس وتخفيف من الضغوط اليومية والقمع السياسي والمظالم المتكررة. الطريق طويل، لكن الأمل يبقى في أن الطبيعة من شأنها أن تصحح معادلاتها المعكوسة، وإلى أن يحدث ذلك سنبقى مجتمعات غريبة الأطوار متعاكسة المنطق، «تسمع كلامها تصدقه تشوف أمورها تستعجب».