مازلنا ندور في دائرة القرن الثامن، في حين حملنا الزمن الى القرن الواحد والعشرين. ما زال حوار «الطاعة» دائراً بيننا، ونقاش صلاحيات «ولي الأمر» قائماً عندنا، دون أن تظهر له «قعدة» قريباً. وفي حين أن مثل هذه المصطلحات مثل الطاعة obedience و ولاية الأمر guardianship قد بادت سياسياً في دول العالم المتحضر، الا أنها لا تزل حاضرة وبقوة في دول الشرق الأوسط ،وتحديداً دول الخليج منها. يتفانى «وعاظ السلاطين» عندنا في الإشارة الى وجوب الطاعة لولي الأمر والفوائد الجمة المحفوظة للمسلمين وديارهم اذا ما أطاعوا «الولي»، الذي لسبب ما، ما أن يصبح ولياً عليهم حتى يصبح أكثر فهماً وحكمة منهم جميعاً. وفي حين أنه ليس من المستغرب أن يحاول الحكام ووعاظهم بث هذه الأفكار وبقوة سواء بحد السيف أو حد الفتوى، الا أن المستغرب هو الرضوخ القوي نسبياً للشعوب العربية. نعم، للفتوى تأثيرها القوي، ولفكرة العقوبة الأبدية (في حال عدم الانصياع للفتوى) رعبها الكثيف، إلا أن الأسى والمعاناة لا بد لهما أن يجبا ما قبلهما، أن يخرجا شعوب الشرق الأوسط من المخاوف الدائمة والرعب الأبدي، أن يدفعاها للثورة على معاناة الدنيا وتهديدات الآخرة، فلا يعود يهم شيء سوى التحرر، التحرر من العبودية الدنيوية والأخروية لأفكار كلها تهديد ووعيد.
هالني أن يصدر في زمننا هذا كتاب ككتاب «الغوغائية هي الطوفان» لحمد العثمان، كتاب مليء من كل مصدر ومخطوطة، بما يشي بضرورة الرضوخ التام للحاكم حتى وإن ظلم، حتى أن الكاتب يقتبس مقولة لأبو بكر الآجري يقول فيها «من أُمر عليك من عربي أو غيره، أبيض أو أسود، أو أعجمي فأطعه في ما ليس لله فيه معصية، وإن حرمك حقاً لك، أو ضربك ظلماً لك، إن انتهك عرضك، أو أخذ مالك، فلا يحملك ذلك على أن تخرج بسيفك حتى تقاتله، ولا تخرج مع خارجي يقاتله، ولا تحرض غيرك على الخروج عليه، ولكن اصبر عليه» (134). إنه تراثنا، إنه التاريخ الاسلامي المكتوب، أن لا تخرج على الحاكم الظالم، وإن «انتهك عرضك»، والتي لها هامش في الكتاب يقول «بالنهي عن السب والشتم». كيف يقبل مسلمو اليوم، بل مسلمو أي زمن، أن تقول كتبهم الدينية والتراثية بمثل هذا القول دون أن يحاربوه ويفندوه لبشاعة خطئه، دع عنك أن يعيدوا نشره وتأكيده في الزمن الحديث؟ أن يقول التراث والتاريخ المكتوب بمثل هذه الأقاويل وأن يحملا قدسية لا تبيح نقضهما وإبعادهما تماماً عن الفكر الديني القويم، فهذان تحديداً هما مصيبتنا، وهما ما يشدانا من أقدامنا الى أرض ترابية متحركة لا نكاد نتثبت على سطحها حتى تجرنا عميقاً في غياهبها.
نحتاج ثورة، ليست ثورة على نظام أو شخص، فهذان تحصيل حاصل للثورة المنشودة. نحتاج الى ثورة فكرية، نطرح فيها أسئلتنا بجرأة، وننظف من خلالها تراثنا بانطلاقة، ونكتب بحداثتها مستقبل حر جديد. ثورة تبيح لنا نقد الدين، حتى وإن قسى النقد، وحتى إن سخر أصحابه، ثورة تفتح باب فكر تجديدي جريء يقلب موازين المفاهيم ويؤسس لأيديولوجية قوامها حقوق الانسان، ثورة تحرر الانسان من رجل الدين، فيصبح هو «شيخ» نفسه، وهو القاضي بما يناسبه، وهو القادر على النقد والتساؤل والمساءلة. وبلا ثورة فكرية تحررية كهذه، لن نتخلص من العبودية، العبودية للحاكم والعبودية لرجل الدين والعبودية للفكرة والعبودية للمخاوف والعبودية للحياة الأبدية ،التي ونحن في بحر بنائها نتناسى الدنيا الحالية فنرضخ بمأساوية لكل من يدعي معرفة أو وصولاً لتلك الأخروية.
ولربما ليس أوضح على الفكرة من المثال المصري، ذهب مبارك وأتى مرسي، وذهب مرسي وأتى السيسي، وفكرة الرضوخ والتأليه قائمتان. وعلى ضفاف خليجنا العربي /الفارسي، تترنح الشعوب تحت وطأة فكرة الطاعة، تحت ثقل تقليد الحاكم الأب، فلا تستطيع حراكاً ولا تمتلك تغييراً، فما أن تحاول حتى يهاجمها ليس وعاظ السلاطين فقط، بل حماة العادات والتقاليد، فتنحني الشعوب تحت وطأة هذه الأثقال مجتمعة، مستشعرة فداحة المقاومة،ليس دينياً فقط ،ولكن اجتماعياً وتقليدياً كذلك. لا بد من ثورة فكرية، دينية أولاً، تتبعها أخرى على العادات والتقاليد، ليستتب لنا عالم جديد.
وأقولها بوضوح، لن يتحقق ذلك إلا بفتح باب النقد على مصراعيه، مهما قسى وبلغ من سخريته، مهما هبط اسلوبه وساءت تعابيره، فالنقد يبقى رأياً وإن ساء وهبط. ولربما من أجل ثورتنا الفكرية، سنحتاج السيىء كما الجيد، والرخيص كما النفيس. كما وأننا سنحتاج للمساءلة والتساؤل، الصعب منهما والسهل، العميق الفلسفي منهما والضحل، نحتاج لأن نتخطى فكرة السؤال المحرم، والسؤال الذي لا إجابة له إلا بعد الموت، والسؤال الذي لا يستطيع بلوغ اجابته العقل البشري، فتلك حجج استخدمها الوعاظ لإيقاف محرك العقل وكتم أصوات تساؤلاته. علينا أن نسأل ونسائل فلا نخاف مما يدور في عقولنا ولا نتعذب بسبب ما يرفضه منطقنا وضميرنا. علينا أن ننتقد ونسخر حتى من أنفسنا، حتى ننظف العقول والقلوب ونبدأ من جديد.