أحد أهم المشاكل المتعلقة بمبدأ الحرية في عالمنا العربي والاسلامي هو أن المدافعين عنه ليسوا أحراراً في دفاعهم، هم مكبلين بمخاوفهم، بما قد يفسر الناس من حديثهم. يدافعون عن الحرية ولكنهم يريدون البقاء في اطار العادات والتقاليد والدين والأعراف، فمقولتي «الحرية لها حدود» و»لا يوجد شيء مطلق» هما المفضلتين لديهم للتخفيف من وقع دعوتهم للحرية وكأنهم يدعون لإثم أو خطيئة.
ولربما تكون هناك مشكلة من نوع بين الدعوة للحرية وفلسفة الأديان، فالأديان عموماً تدعي معرفة الحق المطلق وتطالب بالرضوخ المطلق وأحياناً كثيرة الرضوخ غير المفسر، والأهم فانها جميعاً تقوم على عدد من القواعد والشروط التي تتنافى وقاعدة الحرية المطلقة، الا أن الكثير من المجتمعات المتقدمة الحديثة استطاعت أن توازن بين مفهوم الحرية والتقييد الديني، وتمكنت من اعلاء مفهوم الحرية من حيث أنه لا ايمان حقيقي دون اختيار حر لهذا الايمان، ولا عقيدة حقيقية بالبقاء القسري عليها، ولا تدين نبيل بمحاولة فرضه بالقوة اللفظية أو الكلامية على الآخرين.
والحرية في مفهومها الغربي ليست فعلياً ميزة، بل لربما هي عبء ثقيل يتحول الى ميزة باهظة الثمن بمرور الزمن. فالايمان بالحرية، والتي يجب أن تكون مطلقة تماماً في الرأي والتعبير والبحث العلمي، ولا يكون لها حدوداً الا عند السلامة الجسدية للآخرين، هذا الايمان يؤدي الى أن يسمع الانسان ما لا يود سماعه وأن يرى ما لا يود رؤيته، أن يتعرض لمختلف قاس وأحياناً مهين له ولمبادئه ومعتقداته، الا أن الانسان الغربي يدفع هذا الثمن عن طيب خاطر، فهو مستعد أن يرى ويسمع ويتعامل مع المختلف والمتضاد معه حد الاهانة على ألا يخسر هو حريته بالمقابل وعلى أن يكون له ذات الحق في التفكير والتعبير.
كما ويردد المدافعين من العرب المسلمين عن الحريات أن «حريتك تقف عند حدود حرية الآخرين» مفسرين هذه الجملة بشكل متعسف في الواقع، فهذه المقولة لا تعني أن حريتك تكبلها حريات الآخرين، بل هي تعني أن حريتك ليس بامكانها تكبيل حريات الآخرين، بمعنى، لا يمكنك، اذا نقد أحدهم دينك بشدة مثلاً، أن تدعي أنه بحريته تعدى على حريتك، لأن حريتك، ها هنا، تقف عند حدها أمام حقه في التعبير وان كان تعبيراً لاذعاً مؤلماً. اذن حريتك تقف عند حدها اذا حاولت استخدامها للحد من حريات الآخرين.
كما ويستخدم حماة الحريات عندنا مفهوم الأذى النفسي كثيراً للحد من حرية النقد والتعبير. في العموم، نحن شعوب «رقيقة المشاعر»، كل نقد يؤذينا وكل كلمة تهيننا، نحن شعوب مهزوزة حتى النخاع، مجروحة جروح عميقة، حتى أن أقل النقد يتحول ملحاً يلذع الجروح ويهيجها. وفي حين أن الأذى النفسي كمفهوم موجود في الغرب ويتم التعامل معه أحياناً في قضايا الحريات والتعبير عن الرأي، الا أن هذا الأذى سقفه مرتفع جداً، حيث أنه يجب أن يصل لحدود عليا شديدة حتى يتم اعتباره أذى حقيقي مؤثر له أن يحد من حريات الآخرين. أما عندنا، أي كلمة في حق أسرتك أو قبيلتك، أي نقد حول تقاليدك أو عقيدتك، بل أي محاولة لاختيار المختلف عن السائد تسبب أذى نفسي غير مبرر، حتى أنه اذا غير أحدهم دينه أو حتى أتى ممارسة تخالف الدين السائد تداعى ذلك الى جرح المشاعر العامة. من هنا مثلاً، يفرض صوم رمضان على الشارع العام في الكثير من الدول الاسلامية «مراعاة لمشاعر المسلمين»، ومن غير المفهوم حقاً لم تتأثر مشاعر المسلمين اذا أختار أحدهم طريقاً غير طريقهم وأتى تصرفاً يختلف عن السائد عندهم.
لربما هي الهوية الدينية، تلك هي كل ما بقى للأمم العربية الاسلامية، فهزائمهم العسكرية واندحاراتهم السياسية وتخلفهم العلمي سلبتهم جميعاً وجود مؤثر في العالم، فلم يبق الا الدين، يدعون أنهم به هم «خير أمة»، وأنه لربما هذه الدنيا ليست لهم الا أن الحياة الآخرة هي ملكهم وحدهم، وهكذا، تسكيناً للجراح، يحلم العرب المسلمون باليوم الآخر، والذي من أجل الوصول اليه هم على استعداد لنحر الحرية من الوريد الى الوريد. الأدهى والأمر أن أَحَدُّ السكاكين هي تلك التي في يد حماة الحرية ودعاتها، يصقلونها بتبريرات مستهلكة ويغرسونها بضمير استكان لفكرة المحافظة على العادات والتقاليد وحماية الدين. والى الآن لم يبرر هؤلاء لأنفسهم قبل غيرهم، كيف تستقيم فكرة الحرية في مجاورتها لفكرة تقديس المسلمات؟ كيف نقول حرية ثم نقول حدود؟ ولم يا ترى دوماً ما تقف حريات العالم كله عند حدود ديننا وعاداتنا وتقاليدنا، في حين اننا لا نزن شعرة لأديانهم وعاداتهم، فنصفهم ونصمهم بأبشع ما يكون؟ للحرية ثمن لا نريد أن ندفعه، فالحرية، في حين أنها كيكة لذيذة باهظة الثمن يتقاسمها الغرب بطيب خاطر، ما هي الا غنيمة حرب بالنسبة لنا نريد الحصول عليها بقوة اليد، وفي الطريق الى «المعركة» نخنقها ونموتها.