آه يا كوثر، رحيل الشباب يحرق القلوب، لن يفهم أحد هذه الجملة مثلما نفهمها نحن، لن يشعر أحد بعصرة قلبك، لن يفهم أحد الطنين في أذنيك، لن يتصور أحد الغمامة المستمرة أمام عينيك، لن يتخيل أحد تقطع أنفاسك العصية على الشهيق، المتلاحقة إلى الزفير، لن يتواصل أحد وأنينك، وهذا الوجع يمسك بكل عظامك، وهذا الدموع تجف قبل أن تصل لمآقيك سوانا نحن الأمهات مثلك، لكل منا شاب أو أكثر في بيتها، تضع الواحدة منا على عتبات قلبه عصارة حياتها، ترى فيه مستقبلا وامتدادا وأحفادا، حياة أخرى تمتد من خلالها حياتها. نحن فقط يمكننا أن نتخيل ما يموج به قلبك، ما يمكنك أن تسري به إلى وسادتك في ليال تخلو من النوم، أو أخرى تغط في نوم ثقيل بغيض. نحن فقط نستشعر حرقة فراغ الحضن الذي تحدثت عنه في بيانك، تحتفين فيه ببطلك، وترثين فيه صغيرك، ما أجمل الأولى وما أوجع الثانية.
ليس المقدر الطبيعي لنا كأمهات أن ندفن صغارنا، فنحن نعد العدة مع القدر بحيث نغادر نحن أولاً، بعد أن نرى الشباب اليافع يتحول إلى نضج كامل تتم سعادته بأسر جديدة تنمو بها أسرنا الأولى، هكذا يجب أن تكون الحياة، هكذا هو المسار الطبيعي لها، وعندما يختل هذا التوازن، عندما تغيب حلقة الوسط هذه، تهتز الحياة بأكملها، ينتشر فراغ بين مراحل العمر يكاد يلتهمنا، يقضي على أرواحنا، يتركنا في أماكننا متيبسين، لا نحن نستطيع الخطو إلى الأمام ولا نحن نتمكن من العودة إلى الخلف.
لي بكر اسمه طلال، في الخامسة والعشرين من العمر، هو الدنيا وهو الآخرة، فتى دمث الخلق، جميل الطباع، قارئ نهم شديد الثقافة، متحرر الأفق، صارم الخلق، مخلوق جميل متكامل بعثه الخالق لي ليجعلني أعيش قلق دائم في الحياة. هل سيكون سالماً؟ هل يستطيع أن يحيا بحرية قلبه في هذه البيئة المحيطة المعجونة بالتطرف والعنف؟ هل سيسعد؟ هل قدمت له كل ما يمكنني لأحقق له هذه السعادة؟ يؤرقني هذا الفتى في صحوه ونومه، في خروجه وعودته، هو الهواء الذي أتنفس، والأيام التي أحيا، والدقائق التي تدق بها ساعة حياتي. لو كان ممكناً ما عززته عليك، لو كان محققاً لأهديته لك ابناً يخفف حرقة قلبك، لو كانت القلوب تتبدل والمحبة تغرس عن اختيار، لغرسته في قلبك عل وجوده يخفف ما يمكنني تخيله من دبيب العذاب.
سيدتي أم البطل، هذا الشاب الذي ألقى بنفسه أمام انتحاري تفجير مسجد العنود، انت يا كوثر يا من قدمت محمدك ليحيا شبان كثيرون غيره، كيف يمكننا نحن الأمهات أن نعزيك؟ أن نشكرك؟ أن نحبك؟ أن نخفف عن قلبك؟ ليت كان من الممكن أن نقدم أبناءنا هدية تبلسم جراح قلبك، ولكنني، كما كل الأمهات، نعلم أن الحضن لا يمتلئ الا بهذا الحبيب، وأن مكانه الخالي لا يملأه السبعة مليارات إنسان على سطح الأرض، فاعذري وقاحة كلامي، واغفري سطحية محاولتي، وتذكري لي أنني أقدم أعز ما أملك وأنا أعرف أنه لن يعوضك أعز ما تملكين، هي محاولة مسكينة ولكنها خالصة بكل الحب وبكل الألم وبكل الآهات وبكل العذابات نتشارك بها معك.
وكيف وجهك عذابك؟ تذكرت أم قاتل ابنك، فعزيتها من قلب أم إلى قلب أم، لم ينسك حزنك أو غضبك أمومتها، بل لربما هما ما دفعاها للواجهة أمامك حتى ما عدت ترين سوى عذابها، وما استطعت سوى استشعار فقدها، أجزلت اختيار ابنها لابنك، فقد اختار في موته أن يصطحب «خيرة الشبان وأنقاهم» كما وصفت، ولا أراك سوى صادقة صدوقة، فمن يجزل العطاء من شبابه حتى يقدمه كله، ما يمكن أن يكون سوى الخير والنقاء والكمال مصورين في إنسان؟
نحن نعتذر يا كوثر، نعتذر منك يا أم محمد العيسى ومن أمهات عبدالجليل الأربش ومحمد الأربش وأمهات كل شبابنا المغدورين في أنحاء عالمنا العنيف، هؤلاء الشبان، شيعة وسنة، مسلمين ومسيحيين، والذي غدر بهم ليس فقط التطرف والإرهاب ولكن سكوتنا القديم والمستمر عليهما. فلا تغفري يا أم محمد، لربما استطعنا بحرقة الأمهات، من فقدت ومن باتت تخشى وحش الفقد في هذه الغابة التي نحيا، أن نجدد الهواء وأن نجبر أعتى العتاة على الاعتراف، الاصلاح يبدأ من عندنا، ونقد الذات هو الدواء الناجع لمصابنا، ويا لحرقة الأمهات اللواتي يفقدن الشباب من أجل هذه الفكرة البسيطة المنطقية. نعتذر يا كوثر، وحذار أن تغفري، ليبقى غضبك وغضبنا جميعاً مشتعلاً، حاجزاً نارياً يقف بين شبابنا والموت. عظم الله أجرك يا أم البطل.