لابد لمشكلة تعليم أطفال البدون أن تنتهي اليوم قبل الغد، ولابد لوزير التربية من قرار حاسم حازم جريء، يدخل به كل طفل على أرض الكويت إلى المدرسة دون قيد أو شرط، وأما الأوراق فتستكمل وأما الإجراءات فتتم ولتأخذ وقتها، وأما العمر فلا ينتظر إتمام الإجراءات التعسفية ولا الخروج من الدوائر المتداخلة المتشابكة التي لا تنتهي، وأما الحق الإنساني الأصيل فلا يحتمل المماطلة والتسويف والتحريف. كل طفل يدخل إلى المدرسة، نقطة آخر السطر.
وقضية تعليم الأطفال يا سعادة وزير التربية، يا د. بدر، ما هي إلا قمة هرم ثلجي ضخم عميق الانغراس في مياه بحرنا، مياه ركدت لزمن طويل، حتى سبحت فيها مخلوقات لزجة ونبتت فيها طحالب سامة، ووحدهم البدون يستوجب عليهم استشفاف طريقهم وسط هذا العكر، فالكويتيون يسبحون في الطبقات العليا، حيث الماء أصفى والشمس أقرب بعض الشيء. القصة طويلة وشائكة وموجعة، والأكثر إيلاماً أن أصحابها صغار في مقتبل أيامهم في هذه الدنيا، أصحابها يجب أن يكونوا الآن مشغولين بخفائف الأمور، بمغنيهم المفضل، بقصة الشعر المناسبة، بـ”جروبهم على الواتس آب”، وغيرها مما ينشغل به أبناؤنا، ولكن ليسوا هم يا سعادة الوزير، وليس في هذا الزمن.
هؤلاء الصغار مشغولون بالحصول على مقعد يدرسون عليه حروف الهجاء، فصل فيه تكييف ومدرسة لا تتكوم فيها الزبالة، وبعد أن يكبروا قليلاً ينشغل هؤلاء الصغار بجهاد جديد؛ الحصول على مقعد في الجامعة، فالتعليم الجامعي بالنسبة إليهم ضمان للقمة العيش ولإيجار السكن ومستلزمات الحياة، هذا إذا ما وجدوا وظيفة تستقبلهم بعد التخرج. لا تقبل المؤسسات التعليمية الحكومية الجامعية وما يوازيها من البدون سوى أصحاب معدلات 90.5 فما فوق، أحياناً يرحّل جزء منهم إلى الفصل الثاني بسبب استكمال الأعداد في الفصل الأول، تخيل يا دكتور، ابنك حاصل على 97 كمعدل تخرج من الثانوية ولا يمكن فعلياً ضمان مقعد له في الجامعة، وهؤلاء الطلبة، من سكان مناطق معزولة بعيدة تذكر بالفصل النازي العنصري مع اعتذاري عن قسوة التشبيه، يصبحون مع الفجر الأول يأخذون ما يتيسر من طرق المواصلات الواحد تلو الآخر ليصلوا إلى محاضراتهم، لا إعانة تصرف لهم ولا مكافأة تخصص نادر ولا تفوق، ولا ميزة أخرى تعطى لهم، معظمهم يعمل في أوقات فراغهم في وظائف شارع تعينهم وأهاليهم على المصاريف اليومية الحارقة، ومع ذلك تتم معاملتهم من منطلق “المنة عليهم”.
هؤلاء الطلبة، يا سعادة الوزير، لا يدخلون كليات الطب والهندسة، ولا يمكن أن يحصلوا على بعثات داخلية أو خارجية، ولا يمكن أن يستكملوا تعليمهم العالي في مؤسسات الدولة، هؤلاء الطلبة يتم التعامل معهم على أنهم فائض “تتحمله” الدولة بتأفف، لذا يجب ألا “يزودونها”، أما الحاصلون على 90.4 وأقل، فهؤلاء لا مكان لهم إلا من جيوبهم، فإذا أرادوا استكمال تعليمهم فعليهم بالمؤسسات الخاصة التي تشكل عبئاً مادياً ضخماً بالنسبة إلى أغلب الكويتيين أصحاب الوظائف الثابتة، فما بالك بهم هم؟ هذا غير أن كل هؤلاء الطلبة، الفائقين وغير الفائقين، يحرمون من استكمال تعليمهم إذا ما كانت بطاقتهم الأمنية منتهية أو أوراقهم غير مستكملة.
نحن آباء وأمهات، يا سعادة الوزير، لربما يمكن أن نتخيل الحسرة التي يشعرها أهالي هؤلاء الطلبة المحرومين من الدراسة، لكنني لا أريدك أن تتخيل ذلك، أريدك أن تعود معي إلى الوراء، حين كنا -نحن- طلبة صغارا، نقف على أعتاب الجامعة، نضع من الخطط ما يفوق ربما امتداد أعمارنا، الدنيا كلها لنا ولا يقف شيء أمامنا، والتعليم تحصيل حاصل، وفرصة الدخول للجامعة مضمونة كما هي المياه مضمونة أن تنهمر عندما تفتح الصنبور.
صغار البدون، يا سعادة الوزير، صنبورهم صدئ وجاف، يقفون يرقبونه يقطر لهم مستقبلهم المترجرج قطرة قطرة، حسرة يجب ألا يعرفها من هم في أعمارهم، إلا أن هذه ليست هي القضية الحقيقية يا سيدي، فهؤلاء الطلبة لا يستحقون انتباهك لأنهم صغار وقلوبهم منكسرة، هؤلاء الصغار يستحقون انتباهك لأن حقوقهم منتهكة ولأن الكويت وقعت على اتفاقيات ومعاهدات تلزمها بمراعاة النشء وتوفير التعليم غير المشروط لهم، ولأن دستور الكويت يقول برعاية النشء وتوفير البيئة الملائمة لحيواتهم. هؤلاء الصغار أمانة في رقابنا أمام المجتمع الإنساني وأمام ضمائرنا وأمام إنسانيتنا، هؤلاء الصغار هم اختبارنا وهم ثوابنا وعقابنا، فأسرع بنا يا سعادة الوزير إلى نهاية هذا النفق المظلم المعيب، وأنجحنا معك في هذا الاختبار الرهيب.