كما أن العالم متصل بيئياً وطقسياً ومناخياً، فهو متصل، وبشكل أكبر، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وفكرياً ونفسياً كذلك. لم تعد هناك خصوصية مجتمعية بالمعنى الحرفي ولا شؤون داخلية لا تتحمل التدخل بها ولا قضايا خاصة ممتنعة على غير أصحابها.
البشرية سلسلة مترابطة طويلة من الناس، ما تأتيه حلقة منها تؤثر على بقية الحلقات كلها، وما يصيب أي جزء من هذه السلسلة يصيب بقيتها بلا استثناء، ولا أدلَّ من كارثة وباء كورونا على هذا الترابط المصيري الوثيق.
كل العالم، تقريباً، أدرك ذلك إلا نحن في شرقنا الأوسط المسكين، مازلنا نعتدّ بخصوصياتنا وشؤوننا الداخلية، حتى بيننا وبين بعض كشعوب عربية، والتي ما أورثتنا إلا العذاب والخسائر. نحن عالم غريب، مظلم، قادم من أعماق تاريخ تعذيبي، تاريخ أورثنا الغضب وسرعة الانفعال وسوء الظن والريبة بالآخرين والإيمان المطلق بنظرية المؤامرة.
ولأننا نعاني أزمة هوية في هذا العالم الأوسطي مترامي الأطراف، نتمسك نحن بخصوصيات وهمية نحمي بها معذبينا ونستر بها نواقصنا ونكبّر بها طغاتنا، ونسوم بها أنفسنا سوء العذاب. نحن عالم لا يقبل النقد، لأنه يأتي على جراح لا نحتمل آلامها، نحن عالم لا يفهم الحوار، لأنه يقدم لنا منظوراً يوجعنا، فتجدنا نريح أنفسنا من كل ذلك برفض النقد حماية للكرامة، ورفض آراء الآخرين حماية للخصوصية، الأولى تخلينا عنها والثانية أضحت صرحا من خيال..فهوَى.
اليوم حين يتم نقد أميركا أو إحدى الدول الأوروبية أو دولة في شرق آسيا الأكثر تطوراً، لا تسمع نغمة “شؤوننا الداخلية” إلا فيما ندر، فهذه كلمة مضحكة لم يعد يؤمن بها أو يرددها معظم أفراد الشعب، دع عنك الساسة. هذه دول تنقد نفسها بنفسها وتفرش “غسيلها” أمام العالم، مستوعبة أن الصحة تكمن في تعريض الغسيل للهواء والشمس.
عندنا في الشرق الأوسط لا يوجد وقت جيد للنقد، كل الأوقات غير ملائمة، فلا أجدر من استخدام “سوء التوقيت” لصد أي نقد أو تساؤل أو استنكار. تكررت تجربتي مع حجة الوقت في الكويت في مواجهة أي نقد مقدم، حتى بدا أن “الوقت المناسب” هذا ضرب من ضروب الخيال.
حين نقدتُ المعارضة، وأنا من صفوفها، كان الرد أن التوقيت غير المناسب؛ هم في حالة ضعف اليوم، أنتِ تساهمين في تفكيك الصف، الأزمة حرجة وتتطلب الستر. ما يبدو غائباً عن الوعي السياسي، أنه أياً كانت ظروف المعارضة، أو الحكومة، يبقى النقد ليس فقط مستحقاً ولكن كذلك مستوجباً، هو كل ما نملك كشعوب للمشاركة في صنع المصير. فالمعارضة ليست “ابنة خالتي” حتى أقدر أحوالها الاجتماعية، المعارضة حركة سياسية مؤثرة، إذا زلّت وأمعنت، انزلقنا معها كلنا.
مناسبا كان أم غير مناسب، النقد آت، وهو سيصيب “جماعتي” قبل “الجماعة المقابِلة”، ومن لا يحتمل، فعليه تفادي العمل العام أولاً، وعليه بمراجعة الحراك الذي ينتمي إليه ثانياً. إذا كان النقد يفكّك حراكه، فما سيحدث لهكذا حراك أمام القوى المضادة؟
وعلى ذات السياق الكويتي، يغيب تماماً “الوقت المناسب” وتحضر بقوة “الخصوصية” ذات الالتهاب المزمن عند تقديم أي نقد شرق أوسطي. تجربة بسيطة في نقد الواقع النسائي السعودي، الإعلام القطري، السياسة الإماراتية، على سبيل المثال لا الحصر، ستغمرك في موجة عظيمة من الغضب، لا الوقت مناسب، ولا الخصوصية تسمح، باختصار: “مو شغلك” وحدها الشعوب العربية لا تزال تردد هاتين الكلمتين دون أن تفهم أنهما خنجران في الخاصرة تزينهما وتهديهما لنا حكوماتنا لنطعن بهما أنفسنا.
لكن كل التجارب بطرف وتجربتي الأخيرة مع أهل الكنانة بطرف آخر، لربما لسبب بسيط هو تعداد أهل مصر مقارنة بالدول العربية الأخرى. كتبتُ قبل يومين على تويتر تغريدة تساءلت فيها عن حفل نقل المومياءات الذي أقامته مصر اقتصادياً وصحياً، وكان لدي تساؤل ثالث أعلنت وجوده وما أعلنت عنه، وإن تصورته الأكثر وجعاً، وأهمية.
بالتأكيد ما أتى التفاعل مختلف نوعاً، فعلى وسائل التواصل الاجتماعي النتاج متطابق: كثرة شتامة، قلة معتدلة الغضب وندرة مهذبة الردود. الاختلاف كان في كمية التغريدات وذلك موعز للتعداد المصري المشارك على وسائل التواصل، فكان الوضع طبيعي نسبة وتناسباً، وهو لا يعكس بأي حال من الأحوال لا مزاج ولا ذوق ولا أسلوب ولا حتى فكر الشارع المصري.
في الواقع موجة الهجوم الإلكتروني، بالعموم، عادة ما تكون إما وهمية أو منظمة بتعمد لغرض بعيد، لذلك هي لا تحسب على أهل البلد ولا تعكس واقعه بأي حال من الأحوال. ما كان مؤلماً هي نيران الكراهية والبغض والعنصريات التي أشعلها الناس رداً على التغريدة وبعيداً عن موضوعها، والتي أرهقتني تأنيباً أن كنت طرفاً، وإن كان غير مذنب، في تأجيجها. بدا الاحتقان محتدماً والحساسية في أوجها والموضوع أبعد بكثير من غضب تجاه تغريدة تساؤل بسيط.
بكل تأكيد ليس الموضوع هو الأسئلة محل التغريدة أو أهميتها أو استحقاقها، فهي مجرد تساؤلات هامشية من سيدة مغمورة، وقد تكون صائبة أو في غير محلها، ما كان مثيراً للانتباه هو طريقة التعامل معها التي لم تختلف نوعاً عن التعامل العربي مع أي أسئلة ناقدة بالعموم. تنوعت أغلبية الأجوبة المصرية مستجيبة للنعرة العربية العامة لامتداح الداخل، تفادي النقد وغياب الردود الرصينة عليه، رفض أي اعتراف بقصور أو مشكلة، وتعظيمٌ للذات، متكلفٌ مبالغٌ به حدَّ الفكاهة، لا تختلف تلك الردود في ذلك عن نظيراتها العربية الغالبة بالعموم.
فمن ما معناه: “إحنا الفراعنة فلا يهزمنا أحد”، إلى “إحنا معندناش كورونا أصلاً”، “إحنا أفضل دولة في مكافحتها”، “إحنا أحرار في فلوسنا ومحدش له عندنا حاجة”، “اقتصاد مصر أفضل اقتصاد في العالم”، “إحنا مناعتنا مفيش زيها”، وصولاً إلى “إحنا عندنا أعظم حضارة ترفعنا فوق الجميع”، في تمجيد معتاد عربياً لماض نقدسه دون تمحيص ونستذكره وكأنه واقع مستمر.
من يتمعن يجد أن المنطق واحد في معظم دول الشرق الأوسط. عندنا في الكويت يُرد على النقد بجمل مثل “كويتي وكيفي”، “بفلوسنا”، “ما في ديرة مثل ديرتنا”، “الكويتي غير”، “هذا أهو الكويتي” وغيرها من الكلمات الفارغة فعلاً من المعنى، جمل لا تعكس سوى إلحاح تلك الحاجة المستبدة لخداع الذات، وعمق درجة “النوم على زبد الوعود”*. نحن شعوب تواسي نفسها بتعظيم ذاتها والتهرب من معضلاتها، أبطال متوجين نحن في كنس المصائب تحت السجاد.
لم أرغب في مواجهة خطاب الكراهية الذي بزغ كرأس جبل جليد مرعب هائل العمق، أعرف أن وسائل التواصل تضخمه بشكل مناف للحقيقة، لكن رأسه الثلجي الحارق موجع للروح وآثاره التي تجلت في المبارزة الهزيلة بين الشعوب نيابة عن الدول والحكومات مؤلمة وبالغة الحرج، حيث شحذ كل طرف سيفه وانطلق مدافعاً عما يحسبه “الوطن” في حين أنه في الواقع كان يدفع عن “مؤسسة الدولة” التي تضطهده وتهينه وتستحق منه عسير الحساب.
نحن العرب لا ندرك الفرق بين الاثنين: الوطن بمفهومه الروحي والأخلاقي الذي نتكلم عنه حباً وغراماً وفخراً وهياماً، والدولة المؤسساتية بمفهومها الإداري والتي يجب أن نتكلم عنها نقداً ولوماً وتعزيراً وتقريعاً. نحن لا نشعر أننا مواطنون شركاء، بل نحن رعية مقادين، الدولة تصرف علينا ونحن نعيش في كنفها شاكرين صاغرين.
بعدنا نحيا أبوية الماضي وشمولية الإدارة، بعدنا نعتقد أن المسؤول “في مقام أبونا” والدولة “بيتنا ذي الحرمة”، مما يجعل من نقد المسؤول والدولة عيباً وخيانة، ومما يحول النقد العام لفرش غسيل، ومما يظهر أي نقد من غير أهل البلد على أنه تدخل خارجي. نحن نعيش خمسمائة سنة سياسية في الماضي.
“الناس لازالت في نشوة السهرة الجميلة والأضواء المبهرة وارتفاع نسبة هرمون الوطنية. وفي بعض الأحيان يكون من أهداف مثل هذه الاحتفالات أن تتوه الأسئلة الحيوية وتغيب لفترة من الزمن. الفراعنة أيضاً فعلوا ذلك” علق أحد المغردين المصريين، وهو تعليق ينطبق على كل الواقع العربي بمجمله لا الواقع المصري فقط. قدرنا في هذا الشرق الأوسط الحزين..
*من قصيدة “نامي جياع الشعب نامي” لمحمد مهدي الجواهري.