ماذا يقول عنا برلمان بلا نساء؟ انتهت الكويت من انتخاباتها النيابية بنهاية يوم 5 كانون أول/ديسمبر إلى برلمان ذي رسالة، برلمان مختلف عن سابقيه. تغير وجه البرلمان بنسبة 60٪ لتختفي منه وجوه كانت مسيطرة، ولتسقط «رموز» ما كنا نتصور أن تتزحزح سقوطاً مدوياً، وليسيطر جو معارض واضح على المشهد النيابي. كل هذه التغييرات مهمة وذات دلالات واضحة: لقد حان وقت التغيير. ولكن ومنذ 2009 السنة التي قدمت أول دخول للمرأة الكويتية لمجلس الأمة بفوز أربع نائبات بعضوية المجلس، والوضع آخذ في التراجع بتقلص أعداد الكراسي النسائية في المجلس، وصولاً إلى فقدان الكرسي الأوحد الذي كان لها في سنة 2016 ليصبح صفراً في مجلس 2020. أي معضلة عالقة في الجهاز التنفسي الكويتي تمنع عنه هواء التمثيل النيابي الكامل العادل؟
بكل تأكيد هناك الأسباب التقليدية المعتادة، التي هي حقيقية وفاعلة بقوة في محيطنا وربما تشكل 80٪ من أسباب تعثر المرأة السياسي في منطقتنا. العادات والتقاليد هي العوائق الأقوى بلا شك، فدرجة وعمق حساسية هذه العادات والتقاليد تجعل من عمل المرأة في أي مكان عام، عملية خطرة تحتاج معها لرفع كل جدران الحماية حولها ولارتداء كل أشكال الصرامة والجدية على مظهرها. ولأن المجال السياسي يتطلب تخالطاً وتزاوراً وتلبية نداءات قد تأتي في أوقات متأخرة، وسفراً كثيراً، وتقديم شكلك وطبيعة حياتك للمجتمع بأكمله، يصبح هذا النوع من العمل الأكثر حساسية للمرأة العربية، والخليجية تحديداً. بلا شك، الوضع آخذ بالتغير والتحسن، إلا أن الخطوات السلحفاتية البطيئة لا تواكب العصر والمفاهيم الحديثة، مما يخلق فجوة بين مجتمع المرأة والمفاهيم التقاليدية المفروضة عليها وبين الزمن الذي تعيش فيه والتطلعات التي يفرضها هذا الزمن عليها بتقدمه وانفتاحه على المجتمعات الأخرى.
وليس أسهل من هزيمة امرأة، كل المطلوب الإشارة، ولو ضمنياً، لشرفها أو سمعتها، أو سحب اسم عائلتها، خصوصاً الذكور منهم، لحيز المقارنة والنقد. تحمل المرأة العربية، والخليجية تحديداً، كل عبء الشرف والسمعة، هذين المفهومين الهلاميين، على كتفيها وحدها، هي تصنعهما و«تكسرهما» للعائلة بأكملها، وقد يتعرضا للكسر دون تدخل منها، يكفي ذكرهما بتساؤل حتى يُلوَّثا تماماً، كما أن مجرد ذكر اسمها أحياناً، يكفي الإتيان علناً عليه ليهزم شرف المرأة وسمعة ذكور عائلتها. أي معركة هذه التي تدخلها المرأة وكل ما تتطلبه هزيمتها هي كلمة؟
تأتي المفاهيم الدينية اليوم في الدرجات اللاحقة للعادات والتقاليد، فرغم خفوت الصوت الديني التحريمي لعمل المرأة ولتخالطها في المجالات العامة، مازالت الحوارات حول ولاية المرأة العامة والخاصة، حول إمكانية ممارستها للتشريع، وحول استحقاقها السياسي والمجتمعي الديني لدور قيادي في المجتمع، محل تناظرات دينية. نعم، هو ليس صوتاً بذات القوة السابقة، إلا أنه صوت مؤثر رغم ذلك، صوت له مريدوه الذين يتبنون العادات والتقاليد مساندة لقراءاتهم الدينية، لتعمل كلها متعاونة على قبر كل فرص تمكين المرأة في هذه البقعة الغريبة من عالمنا.
القدرات العلاقاتية معطلة إلى حد كبير عند المرأة كذلك، الصعوبة الجمة في تفعيل هذه العلاقات في منطقة الخليج مثلاً تتمثل في تقييد وجود المرأة في الديوانيات الرجالية، التي هي مطابخ التخطيط والتشريع والاتفاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وعلى الرغم من أن المرأة الكويتية مشاركة في المشهد السياسي والاقتصادي منذ نشأة إمارة الكويت، إلا أن ممارستها الفعلية للعمل السياسي البرلماني لم تبدأ إلا في 2005 متأخرة ما يزيد عن الأربعين عاماً عن الرجل (أول انتخابات لمجلس الأمة الكويتي كانت في 1963) مما أخر كذلك خلقها للعلاقات السياسية المطلوبة وللتحالفات التأسيسية العميقة. كذلك، فإن القدرات الاقتصادية المطلوبة جداً في عالم السياسية ليست على ذات المستوى عند المرأة مقارنة بالرجل، يصاحب ذلك ميل التكتلات الأسرية والقبلية والأيديولوجية لتمويل المرشحين الرجال عن النساء لحضور الثقة بالرجل بديهياً عندهم عوضاً عن المرأة الجديدة نسبياً على المشهد السياسي.
هذا ولا يزال الحوار التقليدي القديم دائراً رغم تنافره وحداثة الزمن: إذا دخلت المرأة المجلس، فمن سيخدم داخل البيت؟ وكأن البيت هذا يفترض أن يكون فندقاً متكامل الخدمات بالنسبة للرجل، لا مكان عيشه ومستقره الذي يستوجب منه أن يرعاه ويخدم فيه على أكمل وجه. إنه السؤال الكوميدي الأبله: إذا دخلت المرأة المجلس، هل ستستطيع أن توفق بين بيتها وعملها؟ لتواجهه إجابة كوميدية البديهية: أن لا يستوجب على المرأة أن توازن كل المهام داخل البيت وخارجه كأنها لاعب أكروبات في سيرك. اللطيفون الذين يعيشون في البيت، الذكور قبل الإناث، يفترض أن يتولوا مهام رعاية هذا البيت بالتساوي، سواء دخلت سيدة البيت المعترك السياسي أم لم تدخله. كل من يعيش في البيت له دور وعليه أن يؤديه، ببساطة.
لا بد كذلك من الإشارة إلى أن غياب العمل الحزبي المنظم في الكويت ساعد في إقصاء العديد من الفئات وعلى رأسها المرأة. ليس ذلك فقط، بل إن غياب الأحزاب وعدم التشريع لها عزز الفئوية والقبلية والطائفية، وكلها تقسيمات تعادي المرأة بدرجة تفوق عداءها لكل وأي شيء آخر، وغيب النشاط السياسي الأيديولوجي الحقيقي، ذاك المبني على الأفكار والخطط العملية والتركيبات والتوجهات السياسية المدنية الواضحة. إن غياب العمل الحزبي عن المشهد السياسي ساهم في إضعاف فرص كل «الأقليات السياسية» وبالأخص الأقلية النسائية الغرائبية بأكثرية عددها وبأقلية قوتها السياسية والمجتمعية.
يبقى أن نقيّم أداء المرأة كذلك، والذي هو تقييم نقدي مستحق، ليرافق التسبيبات الأخرى، فلا يمكن أن تتحقق خسارات كبيرة دون أن يكون للخاسر دور واضح فيها. لم يكن أداء المرأة في السنوات القليلة السابقة، وصولاً إلى 2020 في أفضل أحواله، ولأننا كنساء علينا أن نعمل ضعف العمل لنتحصل على نصف النتيجة، فلربما كانت هذه النتيجة الحزينة متوقعة. فعلى الرغم من ترشح رجال أقل مستوى علمي وعملي وثقافي وسياسي بدرجة كبيرة من نظيراتهم المرشحات النساء، كنا نتوقع أن الحكم سيكون أقسى على المرأة، مما استوجب إعداداً جيداً لهذه الحقيقة رغم الغياب الفادح لعدالتها. النائبة الوحيدة لمجلس 2016 المنصرم لم تقدم نموذجاً جيداً، مما انعكس، ظلماً وتعميماً أعمى، على التقييم العام للعنصر النسائي ككل. هذا، ويستوجب هنا الاعتراف بحقيقة تقاعس مرشحات مجلس 2020 عن تقديم خطاب عميق وخطط واضحة ومعالجات حقيقية للقضايا الرئيسية في المجتمع، ليتحالف هذا التقاعس مع كل العوائق السابقة، جاعلاً من مجلس الأمة الكويتي لسنة 2020 يتيم النساء. إنها حالة حزينة بل وقد أقول محرجة جداً لنا كدولة صغيرة متحضرة، كمجتمع مدني متقدم، وعلى الأخص، كنساء كويتيات عرف عنهن الأسبقية في دخول الحقول السياسية والاقتصادية على مستوى العالم العربي كله. كيف سمحنا للوضع أن يتدهور بحراكنا، وبالتالي بتمثيلنا البرلماني المستحق إلى هذا الحد؟
ستكون هناك مراجعات قاسية وجدية في الفترة المقبلة، وستكون هناك استعدادت تحضيرية صارمة على أعلى المستويات لإعادة المرأة الكويتية مجدداً لمجلسها، عسى أن يكون المجلس الحالي هو الأخير الذي يخلو من تمثيل مباشر لأكثر من نصف المجتمع.