شوارع القاهرة قصة أخرى أود أن أحكي لكم عنها. تركت إسطنبول قبل أيام متجهة للقاهرة في زيارة، السبب المعلن منها هو حضور حفل زفاف ابن أعز صديقاتي وأختي التي لم تلدها أمي، أما السبب غير المعلن فهو طبعاً أشواقي وحنيني للأصوات والروائح والحركات والإيقاعات، تلك الخاصة بالشارع المصري والتي لا مثيل لها في أي مدينة أخرى في العالم.
ولقد كتبت في المقال السابق عن جولتي في شوارع إسطنبول وعن الحرب المستعرة صباحاً بين كل «المتحركات»، الناس والسيارات والقطارات والمراكب وحتى أكواب الشاي المتنقلة بين أيدي الندل وصولاً إلى أيدي الزبائن. كانت حرب الصباح الإسطنبولية اكتشافاً مثيراً للاهتمام بالنسبة لي، أما حرب الصباح المصرية فتلك أحفظها عن ظهر قلب وأعددت نفسي لها قبل خوضها، ورغم ذلك، أتت لتفوق كل التوقعات. وكما قررت أن أخرج في جولة على القدمين لاكتشاف إسطنبول، قررت أن أخرج في جولة القدمين ذاتها لإعادة اكتشاف واستعادة الذكريات المصرية، لكن هذا الهدف لم يكن سهلاً قط.
بدا أولاً أن فكرة الخروج من الشقة التي أقطنها مشياً غير واردة؛ فالقاهرة، كما الكويت، مدينة تحتاج لسيارة أو أي وسيلة تنقل أخرى كالباص أو القطار أو الميترو، مدينة غير مؤانسة كثيراً لفكرة المشي على القدمين. خرجت في باكر صباحي لأفطر عند صديقة والدتي التي فقدت زوجها مؤخراً بعد ما يقترب من الستين سنة من الزواج. امتلأت سفرة طنط حكمت بالبيض المصري الشهي والفول والطعمية وعدد كبير من الأجبان والعسل الطازج. «كل ده لي أنا يا طنط؟» سألتها ضاحكة، فردت عليّ بالجملة التي اعتدتها من كل «طنطاتي» المصريات الجميلات الرائعات: «شكلك مش عاجبني، ولازم تتغذي كويس». أكلت مع طنط حكمت كثيراً، وحكينا «لتاً وعجناً» أكثر، وبكت هي وواسيت أنا، وحين أردت الخروج بعد أذان الظهر بمدة، عاتبتني على عادة كل طنطاتي الخلابات: «إيه الزيارة السريعة دي؟».
اتجهت بعدها إلى متحف المومياوات، متحف فخم رائق، صغير الحجم، مهم المجموعة الفنية. رأيت عدداً كبيراً من المومياوات الملكية المهمة وقرأت ما توفر بجانب مرقدهم من معلومات غنية أورثتني المزيد من الأسئلة ووعد لنفسي بأن أقتني كتاباً مفصلاً عن التاريخ الفرعوني بمملكاته الثلاث. كان متجر المتحف جميلاً ولكن، كعادة الأسعار السياحية المصرية، بضاعته باهظة الثمن. ولأنني مصرية الثقافة، عرفت من أين أتحصل على ما أرغب من هذا المتجر بأثمان أقل كثيراً، فوليت وجهي «نص البلد» ومن بعدها للحسين وخان الخليلي.
«البلد»، كما يطلق المصريون على قلب القاهرة، هي منطقة معبقة تاريخياً إلا أنها صعبة، عصية على التجوال المريح. مشيت في شارع قصر النيل ثم شارع طلعت حرب، وقد نسيت تماماً فكرة السماعات في الأذن، في «البلد» لا بد أن تكون عيناك في منتصف رأسك، وأذنك «مطرطقة» تماماً لكل الأصوات من حولك. هي حرب شعواء تخوضها على قدميك في «البلد» بين أشياء متحركة كثيرة، مناوراً الحفر التي تملأ الشوارع، متعرج الحركة بين المشاة المسرعين والسيارات التي لا تهتم كثيراً لوجودك، وبكل تأكيد لن تنتظرك لتتهادى عبوراً للضفة الأخرى. زرت «المدبولي»، مكتبة والدي وكل جيله المفضلة، ليواجهني مباشرة كتاب جديد حول جمال عبد الناصر، البطل القومي الذي يعشقه عمي، والد زوجي، والذي يعلق صورته في قاعة مكتبه. اقتنيت الكتاب ومعه عدة مسرحيات لنوال السعداوي وروايات لمحمد النعاس وآخرين، وكتيبات متواضعة الطباعة لشعر أحمد فؤاد نجم، وخرجت على وعد بزيارة أخرى لا أعلم إن كنت سأستطيع خوض كل هذه الحرب مجدداً للإيفاء بها.
أخذت استراحة محارب في كافيه ريش، أحد أعرق كافيهات ومطاعم «البلد». اصطفت طاولات الكافيه في طابور طويل في قاعة مستطيلة ضيقة تجاورها قاعة أخرى خالية سوى من ماض عظيم، قريب بعيد. تنتشر على حوائط هذه القاعة صور لرموز مصرية عظيمة مثل نجيب سرور، رجاء النقاش، أمل دنقل، نجيب الريحاني، يوسف وهبي، وروز اليوسف وكثيرين غيرهم، صور ملتحفة باللونين الأبيض والأسود ومستقرة في إطارات قديمة تنقل المار عليها مباشرة إلى ما قبل خمسينيات القرن الماضي. في ركن هذه القاعة يستقر بيانو يركن فوقه عود وبعض التحف. كل شيء في هذه القاعة يسافر بك لماض فني وثقافي عظيم. يجلس من تصورتهم أصحاب المطعم، سيدة جميلة وابنيها على أول طاولتين من طاولات القاعة المستطيلة، ينهون الحسابات ويتشاورون في أمور الإدارة ويراقبون زبائنهم بود وألفة. تأخر طلبي واستأذنت خروجاً لارتباطي بموعد آخر، فأصر الشاب الذي كان ينادي السيدة الجميلة «ماما» أن أكون ضيفته. خرجت شاكرة ممتنة وكأني أخرج من منتصف القرن العشرين الرائق الهادئ الساحر، إلى أوائل القرن الواحد العشرين الصاخب المخيف.
امتلأت القاهرة بالجسور، «كباري» فوق «كباري» كما يعلق المصريون ساخرين. تهت أنا تماماً عن القاهرة التي أعرف، أستشعر روحها راسخة إلا أن مظهرها اختلف بعض الشيء، وكأنها تصر على أن تُجمِّل نفسها «للآخرين» مقدمة وجهها الأكثر قسوة لأهل بيتها الداخليين. بدت القاهرة التي تغنج زوارها بالجسور والمولات مكشرة في وجه أهلها، والجسور تحرمهم امتداد الرؤية أمامهم، والمولات تكتمهم بإسمنتها وحديدها وغلاء أسعارها. سمعت الكثير من التعليقات من سائق السيارة التي تقلني، من الباعة، من الندل في المطاعم، كلهم يشكون «الكباري» تحديداً، وكأنها رمز لكل ما يؤسيهم في العهد الجديد.
لكن تبقى القاهرة هي القاهرة، بجمالها وعراقتها وزحامها وصعوبة مراسها، حيث الجمال الخلاب القاسي لا يكشف عن نفسه تماماً إلا حين تهبط الشمس، فيتهادى الأحبة مشياً على القدمين على «الكورنيش» أو يسرع المشتاقون لجلسة طرب شعبية مزعجة في خان الخليلي متأملين طاولة في نجيب محفوظ أو كرسي «مزنوق» على الفيشاوي. ليل القاهرة يحتاج لمقال منفرد، أحكي لكم فيه عن روعة الحسين، وقسوة ممرات خان الخليلي و»طرواة» ممشى النيل ومخملية شارع تسعين والازدحام الشبابي البورجوازي لمول الفيستيفال. أحكي لكم المرة القادمة و»يا مين يعيش».