مقابلة برنامج “حديث الخليج” التي بثتها قناة الحرة حول موضوع العنف ضد الوافدين في منطقة الخليج والتي استضافت ثلاثة متحدثين كويتيين ومتحدث مصري وهو باحث بمنظمة “هيومن رايتس واتش” قد أبرزت حقيقة عمق المشكلة وجذورها، وذلك ليس من خلال ما قيل ولكن من خلال المزاج العام الذي برز في المقابلة. هو منحى عربي، يمتاز بتفادي المشكلة والدفاع القوي عن البلد والذات وكأن المشكلة ما هي سوى ضغينة شخصية وليست ظاهرة منتشرة تستحق الدراسة والفهم والمعالجة من أجل مصلحة أهل البلد قبل غيرهم.
لن آتي على نقد ما قيل في المقابلة، لكنني سأقول ما كان، من وجهة نظري، يجب قوله، لأن الحلول تأتي من المواجهة الحقيقية لا من تهوين المعضلة الإنسانية بتبريرات غير مقنعة وبكلام حسن الصياغة والتشكيل. الأغلبية العظمى من الدول الديمقراطية الناجحة، ولو نسبيا، تواجه مشكلاتها علانية وتحاسب مقصريها على الملأ، لا عيب يسكتهم ولا فضيحة تخجلهم ولا شخصنة تمنعهم ولا قبلية “الدفاع عن أخي ضد ابن عمي وعن ابن عمي ضد الغريب” تقف حاجزا بينهم وبين مواجهة مستحقة سيستفيد منها بلدهم ومجتمعهم قبل أي جهة أخرى. مهما كانت التكلفة، مهما كان إحراج المواجهة أو وجع نكئ المشكلة، تفهم هذه الدول أن تلك هي الخطوة الأولى الممكنة للبدء بالحل.
أحيانا تبدو ظاهرة العنف اللفظي والبدني والنفسي ضد الوافدين أكثر اتساعا وظهورا في الكويت، وعلى حين أن مسألة الطرف “الأكثر” تحقيقا للظاهرة المسيئة أو “الأقل” غير مجدية هنا، فالنسبة الخفيضة للظاهرة لا تقلل آثارها ولا تبرر للقائمين عليها، إلا أنه من المهم الإشارة إلى أن الحرية الصحافية والمجتمعية النسبية في الكويت هي خلف هذا التركيز على المشهد الكويتي. هذه الحرية الصحفية والنقدية لطالما حولت عملية “نشر الغسيل” كما يميل دعاة “الستر على الأخطاء” وصفها، لعملية تطهيرية محمودة، لطالما أنقذتنا من مواقف صعبة وحمتنا من أنفسنا ومن أخطائنا، وهي اليوم العملية التي ساعدتنا على تسليط الضوء على هذه المعضلة الإنسانية وعلى الإشارة لها ليس فقط على أرض الكويت ولكن على أراض الدول المجاورة كذلك.
الظاهرة موجودة وواضحة ومنتشرة منذ زمن وآخذة في التصاعد مؤخرا وذلك لأسباب عدة، ومحاولة إنكار وجود هذه الظاهرة أو إلباسها ثوب الحوادث الشخصية هي عذر أقبح من ذنب في الحقيقة. هناك أسباب عدة لانتشار هذه الظاهرة في دولنا الخليجية، ففي حين أن هناك مزاج عنصري عالمي تغذيه بعض الحكومات القوية مما انعكس على شعوب العالم أجمع وسهل عملية الصدح بالحديث العنصري الذي بات مقبولا بل ومعتادا، إلا أن لمنطقة الخليج خصوصية عمقت المشكلة ورسختها.
دول الخليج دول حديثة، وصلتها ثروات ضخمة وسهلة لم تتزامن مع التطور الفكري والديمقراطي والسياسي المطلوبين ليس فقط لإدارة الثروات ولكن للتعامل النفسي مع تداعيات وجودها. إن حقيقة أن دولنا أغنى من بقية الدول المحيطة بفارق شاسع لا بد أن يكون لها أثر كبير على النفسيات الخليجية وعلى التعاملات الذهنية مع محيطها. هذا الغنى يتطلب إدارة نفسية وذهنية، حتى لا تنفصل الشعوب الخليجية عن محيطها وحتى لا تستريب من كل غريب عنها وحتى لا تتصور أن الكل يتملقها ويظهر حبه لها فقط من أجل أموالها.
الشعوب الخليجية، لما قبل النفط، كان لديها مزايا وقدرات هائلة، الكويت تحديدا كان فيها صناعة وتجارة بشكل واسع، إلا أن كل ذلك سريعا ما ذاب في الثراء السريع وما صاحبه من تموجات نفسية وذهنية صعدت حواجز عدة بين الخليجيين ومحيطهم القريب والبعيد.
المعضلة الأخرى في المجتمعات الخليجية، والتي أتصورها باعث رئيسي لمعظم مشكلات المنطقة، هي قبليتها العميقة المتجذرة والتي لم تستطع كل أشكال الحياة المدنية الحديثة أن تزيلها. دولنا الخليجية دول جميلة، حضارية الشكل، مدنية المؤسسات، إلا أنه أسفل هذه المدنية هناك قبو ضخم يحتضن سلسلات من العلاقات المتشعبة المعقدة والتي تحكم معظم ما يدار على السطح المدني اللطيف.
طبعا ليس المقصود بالقبلية ما مرده للقبيلة أو البداوة (من المحزن الحاجة لتقديم هذا التوضيح كلما أتينا على ذكر القبلية) إنما المقصود منهجية بشرية قديمة تتحكم فيها صلات القرابة والدم بالعلاقات وكذلك بالمفاهيم والأخلاقيات، فالقريب أبدى من البعيد، وأنا وأخي على ابن عمي، وعائلتي أو قبيلتي أو جماعتي قبل الآخرين، وروابط الصلة والقرابة ووحدة الجذور ونسب الدم تتقدم عما عداها حتى ولو كان الأمر يخص حقوقا إنسانية أو عدالة بشرية مستحقة.
مجتمعاتنا الخليجية، رغم ما يبدو من انفتاحها على العالم الخارجي، متكتلة على نفسها، تحكمها صلات القرابة والدم والنسب، بل هي تفاضل في داخلها على هذا الأساس، أي أن أبناء المجتمع الواحد ينقسمون درجات وطبقات طبقا لهذه المفاهيم القديمة. فإذا ما طال هذا التقسيم أهل الدار، لا بد أنه سيصل للوافدين بصورة أكثر عنفا وحرقة.
وعلى هذا الأساس، نجد أنه وعلى الرغم من وجود قوانين ممتازة ومحاكم قوية وأنظمة إدارة متقنة في المجتمعات الخليجية، إلا أنها كثيرا ما تنهزم أمام العلاقات والوسائط والأموال. فحين يهان أو يُؤذى وافد، تتكالب العلاقات لإنقاذ ابن البلد وإخراجه من المشكلة، وحين تقصر يد هذا الأسلوب، يمكن أن يوظف المال كأداة تعويض لإتمام المهمة.
أعلم أن هذا حديث مؤذ، وأعلم أنه سيغضب أهل الخليج، أهلي ومجتمعي، ولكن الدواء مر واللقاح مؤلم، وحتى نطيب من ملمات مجتمعاتنا، لا بد لنا أن نتعرف عليها، نواجهها ونصارح أنفسنا بمجرياتها وتبعاتها. هل من أحد منا في كل دول الخليج لا يعرف قصة طغى بها ابن البلد على الغريب بوساطة أو بمبلغ من المال؟ كم منا لديه حكاية أو مئة حكاية عن وافد ذهب لقسم الشرطة وخرج مهزوما بسبب تكالب العلاقات عليه؟ كم منا يعلم علم القين بوقوع إهانة أو تعدي لمقيم في ديارنا لكن صاحبها سكت وبلع الموس لأنه يخاف من ضرر أكبر، لأنه يعلم أنه لو تحدث سيخسر لقمة عيشه وربما حتى أمنه؟ كم مرة ترددت بيننا بعنجهية وقسوة جملة “يا غريب كل أديب” الفقيرة لمفاهيم حسن العشرة وسيادة الأخلاق واحترام حقوق الإنسان؟ لنكن واضحين، لنقطع الحق من أنفسنا، الموضوع قبل أن يكون سياسات بين دول ومناوشات إعلامية بين قنوات وتبادلات رخيصة بين حقودين على وسائل التواصل يثيرون ضغائننا ضد بعضنا البعض، الموضوع عندنا والمشكلة بعض جذرها في أعماقنا، جذور تحتم المواجهة.
بكل تأكيد للشعوب الأخرى نواقصها وعيوبها، بكل تأكيد هم يساهمون في تفشي مشكلة تراشق التهم على وسائل التواصل وتبادل الشتائم وتضخيم الكراهية بين الشعوب. لكن لهذه الشعوب، على ما أتمنى، من يحادثها وينصحها داخليا. أنا عليّ بأهلي، بمجتمعي الذي أعيش فيه وأشهد علاته، وكل مجتمعات الدنيا لها علات. إلى حين نتمكن من إزالة غشاوة المال من أمام أعيننا، وإلى حين أن نخفف حدة مشاعرنا القبلية التي تحكمها روابط الدم والمفاهيم البدائية القديمة، سنبقى منفصلين، بعيدين، وموضع اتهام. نحن نستحق الأفضل، من أنفسنا أولا.
آخر شيء: لا توجد كلمات نعزي بها بيروت ونعزي بها أنفسنا. الفساد الذي فجر المرفأ من صنعنا جميعا، هل تغفر لنا بيروت؟