في 1791 مع بداية النهاية للويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت، هذه النهاية التي ستتوج الثورة الفرنسية وتبدأ عهداً جديداً غير مسبوق من الديمقراطية في أوروبا، في هذه السنة أرسل بعض ملوك وحكام أوروبا قواتهم لحماية لويس وأسرته، ليس حباً فيه ولكن خوفاً من شعوبهم أن تتشجع فتثور ثورة الفرنسيين المرعبة. طبعاً أثار هذا التصرف حنق الفرنسيين، فأمعنوا تقتيلاً في مؤيدي الملك، وأصبح كل ما له علاقة بالملك وزمانه رجساً لابد من التخلص منه.
ارتفعت نسبة العنف بشكل غير مسبوق، فتم اختراع آلة المقصلة وإنشاء المحكمة الثورية التي أرسلت الآلاف إلى حتفها إعداماً في ساحات باريس، ثم جاء روبيسبيير لينشر الرعب في أفئدة “أعداء المنطق” كما كان يسميهم، حيث ألغى عبادة الله بمرسوم ليعلن بعدها نفسه قسيساً للمنطق والعقل، وليستمر في عتهه حتى قطع رأسه هو بذات السبل التي اتخذها ضد أعدائه.
في 1795 ألغيت محكمة الثورة وتكون مجلس ليدير البلد بدستور جديد. بعدها، في 1789 بدأ نجم “عريف صغير” قصير القامة، نحيل البدن، منطوي الطباع بالسطوع، ليصبح أحد أهم القادة التاريخيين وأحزنهم مآلاً، وقصة نابليون بونابارت طويلة ومعبرة تتنقل به من عريف صغير لجنرال لامع إلى إمبراطور معبود إلى قائد مجنون مهزوم قضى عليه نهمه، فعندما مد رقبته باتجاه روسيا، بدأت نهايته، حيث ما إن وقعت به الهزيمة المريعة في موسكو، حتى خلعه الفرنسيون وعزلوه على جزيرة نائية.
وقتها أصبح الجميع، خصوصاً حكام أوروبا، ينظرون إلى التنوير على أنه مصدر كل بلاء، وعادت أوروبا لظلماتها القديمة، فصعد لويس الثامن عشر إلى عرش فرنسا، وحكم بذات السوء الذي حكمه به أخوه لويس السادس عشر. عندما سمع نابليون بذلك، غادر جزيرته وانضم إلى فرقة من جنوده للإطاحة بلويس الثامن عشر، حيث فر الأخير هارباً من فرنسا فور سماعه بعودة القائد المهيب، إلا أن حكام أوروبا لم يكونوا مستعدين لعودة مجنون العظمة هذا، فأعدوا العدة له وأسقطوه في معركة ووترلو، آخر معاركه التي عاش بعدها منبوذاً وحيداً على جزيرة القديسة هيلينا. إبان كل ذلك، كانت أوروبا تعود إلى الخلف كما لو أن الثورة بتنويرها وشعاراتها وتحررها لم تكن، إلا أن الحقيقة أن الثورة قامت، وأثرها انغرس عميقاً في قلوب ووجدان الناس، وعلى الرغم من التراجع الشديد وبعض الارتدادات البشعة، حيث تراجعت مبادئ الثورة إلى الحد الذي اختفت فيه تماماً، فإن حلاوة طعم الحرية ومبادئ المساواة والإخاء وأهمية العقل والعلم والمنطق، كلها بقيت سائغة شهية في حلوق الناس، فعملوا على العودة إليها، جربوا هذا القائد ثم ذاك، هذا الأسلوب السياسي ثم ضده، طريق العنف هذا ثم طريق الإنسانية، وأخيراً وصلت أوروبا بأجمعها وليس فرنسا فقط، إلى هذه الحضارة الإنسانية الراسخة، التي لم تكن كلفتها بالقليل أبداً.
الغرض من هذا السرد التاريخي ينحصر في نقطتين، أولاهما إيصال فكرة أن التراجع والأخطاء، حتى العميقة منها، ليسا بغريبين على الثورات وتداعياتها، إنها طبيعة هذه المشاريع الإنسانية الضخمة، تجرب نفسها، تصحح أخطاءها، وترتكب غيرها وهي في الطريق الى أن تجد المعادلة الصحيحة.
وثانيتها، التأكيد على فكرة أننا لا نمتلك ذات الوقت والصبر ولا اللين والاحتمال لأخطاء الثورات الإنسانية السابقة. قبل أربعمئة سنة، كان المجال مفتوحاً للأخطاء، والحقوق الإنسانية مطاطة مضببة، فكانت الفرصة متاحة للثورات أن تخطئ وتتراجع بل أن تنتهك حقوق الناس وتعود إلى تصحيح نفسها.
اليوم ليس هناك مجال لمثل هذا التراجع وليس هناك صبر على مثل هذه الأخطاء وليس هناك تحمل لمثل هذه الجرائم. يجب على الثورات أن تأتي بمثالية وإنسانية وأن تنجح بأعلى الدرجات وبأقل هامش من الأخطاء، فإنسانية اليوم وقيم ومبادئ الحياة الحديثة لم تعد تحتمل أخطاء وتضحيات الماضي، وليس غير الشعب المصري الرائع الذي ضرب لنا أجمل مثل في تحطيم فكرة القائد الإله وفي ترسيخ فكرة الشعب يحكم الشعب، ليس غير المصريين من يمكنهم أن يحققوا هذه المعادلة الصعبة للخروج بأجمل النتائج وبأقل القليل من الخسائر.
ليست عدالة المنتقم هي المنتظرة اليوم، ليس العزل والتهميش والانقسام، إنما هي الرحمة والتواد وإعادة بناء الصفوف، يبقى “الإخوان المسلمون” جزءاً لا يتجزأ من الشعب المصري العظيم الذي لم ينقسم في يوم بدرجة ورعه، إنما قسّمه قلة ورع سياسييه الذين اتخذوا من الدين أداة سياسية (سواء بعزل هذا الدين أو باستخدامه) كادت تودي بالجميع إلى ضياع لا عودة منه. لابد من إعادة بناء المجتمع، وذلك بإعادة دمج الجميع فيه، لابد من فتح باب الحريات على مصراعيها، وليضرب المصريون مثلاً بثورتهم التي ستتسع للجميع وستتحمل كل الآراء وستقف على ذات المسافة من كل التوجهات، وستضم كل أبنائها تحت جناحها، باسم العدالة والمساواة والحرية والكرامة الإنسانية، وليس غيركم أيها المصريون قادراً على ذلك.